والأخوة في الدرس والوحدة في الجنس والتآلف في الرأي. وأنت هناك طالب الجامعة مثلما كنت هنا طالباً في المدرسة ترضى بالقليل وتقنع بالتافه، وأنت هناك خامل الذكر مثلما كنت هنا وضيع الهمة، وأنت هناك بعيد عن لذائذ الحياة ومتعها مثلما كنت هنا تعاني الحرمان والضيق. ولكن عميد الجامعة أراد فأصبحت، بعد سنتين، دكتوراً في الفلسفة. وتراءيت في عيني رأيك فيلسوفاً وجرفتك الكبرياء، فما كان يليق بك أن تكون رجلاً ممن يعيش فيمضطرب الحياة ونوازعها، وأنت ابن سقراط وترب كنت وصاحب ديكارت. ولكن، آه - يا صاحبي - لقد عجزت الفلسفة عن أن تسوّى منك رجلاً آخر غير الذي كان منذ سنين، إلا أن تلوي لسانك بكلمات لاتينية فتزيدك عيّا على عيك، إلا أن تشوب لهجتك لكنة أعجمية بغيضة إلى القلب والنفس فتضيف حمقاً إلى حمق فيك، وإلا أن تجهر بآراء هدّامة تحسبها حديثة مبتكرة فتضم سفهاً إلى سفه فيك. ثم. . . ثم جلست إلى في ندوة ثقافية في القاهرة تحدثني بآرائك قائلا (أنا ابن الطبيعة وثمرة الحرية فدعني أهم في أرجاء الأرض لا يقيدني وطن، ولا يمسكني دين، ولا تربطني لغة. دعني أنطلق منها فهي أغلال ثقال تشل عقلي وتصعق خواطري وتبعث بأفكاري) فعجبت أن يكون هذا حديثك وأنت ابن الريف وثمرة الغيط وربيب الدين!
ماذا دهاك يا صاحبي؟ أفكان لسنتين أن تحولا عقلك من حال إلى حال فتنزل عن كرامتك وتنبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة، على حين قد عشت نيفا واربعين سنة في وطنك، عشتها جميعا نتنقل بين المدينة والريف، وأنت في المدينة لا تحس إلا العمل الشاق المظنى وإلا هذا الزقاق الضيق القذر الذي تسكن في ناحية منه، وأنت في الريف لا ترى إلا اهلك وهم من أواسط الناس وإلا دارك وان رائحة الروث لما تبرح تتأرجح في جنباتها. يا عجباً! فما بال الشباب يذهب إلى هناك ليعيش سنوات وسنوات، وهو في ثورة الشباب وفورة الصبا، يستمتع بالقوةوالتراث ويتألق في النضارة والذكاء. . . ما باله إلى وطنه فلا تحس في لسانه التواء ولا في كلامه لكنه ولا في آرائه جفوة، على حين أنه بلغ غاية العلم وتسنم ذورة الفلسفة.
قد كان لي أن أقول: لعل أضواء المدينة في الغرب قد خلبتك فمشى بصرك فما عدت ترى في الشرق إلا ذبالة توشك أن تنطفئ، أو لعل نور الثقافة الإفرنجية قد سلبك عقلك فما