أصبحت تلمس هنا - في الشرق - إلا ظلمات من الجهل تكثف بعضها فوق بعض، أو لعل بهرج الحضارة هناك قد طمس على قلبك فرحت تحتقر الوطن والدين واللغة. . . قد كان لي أن أتلمس لك عذراً في شيء من هذا لو أنك أخذت منها بنصيب أو ضربت فيها بسهم، ولكنك عشت هناك على حيد الحياة لا ترى إلا الكتاب والدرس والحجرة، ولا تحس إلا العمل المرهق، ثم. . . ثم الوحدة والحرمان.
ورجعت - يا صاحبي - إلى وطنك لتتلقفك قيودك من جديد. ولكن القبعة التي لبست ترفعت عن القرية وتسامت عن الريف، وأبوك شيخ همّ عصفت به السنون فانحطت قوته ووهى جلده فهو يرنو إلى عطفك ويصبو إلى حنانك، وأمك عجوز شمطاء قد عبث بها الزمن فتقوس ظهرها وسقطت أسنانها فهي تهفو إليك، وقلبها يرف حواليك. لقد ترفعت القبعة عن القرية في حين أنها تعبدك لرئيسك القديم واستخذت لعميد المعهد الأجنبي. وهكذا تحررت من قيدين لترسف في قيدين.
وجاءك رسول أبيك يقول لك (إن أباك يكاد يلفظ آخر أنفاسه، وإنه ليهتف باسمك بين الحين والحين، وهو في غمرة المرض ووطأة الحمى. . .) وأصغيت إلى الحديث - يا صاحبي - بأذنك، وقلبك في شغل لا يحس معنى الإنسانية؛ فما انطلقت إلى القرية إلا حين جاءك البرق يقول (مات أبوك اليوم) مات أبوك وفي قلبه شوق يتأجج لأن يرى ابنه العاق.
وجلست إليك أمك في ضعفها وشيخوختها تستجدي عطفك ورجولتك، فأصغيت أنت إلى حديثها بأذنك، وقلبك في شغل لا يحس معنى الإنسانية. وجرفتك كبرياء القبعة فاستوليت على ميراثك من أبيك وهو ضئيل، ثم طرت عن القرية إلى الأبد لتذر أمك وحدها. . .
وجئت أنا - بعد أيام - لأعزيك في أبيك، فألفيتك تبسم - لأول مرة في حياتك - وأنت مسفر الوجه طلق المحيا. لقد كان يخيل إلى أنني سأراك منكسف البال شارد الذهن وقد أرمضك الحزن وهدّك الأسى، يفريك الندم على أن قصرت في حق أبيك، وامتهنت أمنيته الأخيرة وهو على فراش الموت. فما بالي أراك في نشوتك وسرورك لا يعنيك إلا أن تظفر ببعض ماله؟ لقد تراءيت في ناظري رجلاً نزل عن رجولتك وإنسانيته وكرامته في وقت معاً، فكرهتك واحتقرتك.
يا لقلبي! إن في الحياة أناساً يتشحون بثوب الإنسان وإن ضلوعهم لتنضم على مثل روح