أنصاف الأدباء وأشباه الشعراء، وخلقوا شعراء وفصحاء لم يخلقوا من قبل، وعزَوْا إلى غيرهم من الآثار ما هم براء منه؛ وهكذا خمل من رجال الأدب من عاشوا في عالم الأحياء، وعاش في عالم الأدب من لم يشهدوا نور الحياة.
ولما استُعملت الكتابة الخطية وقل الاعتماد على الرواية، ظلت الكتب نادرة والاستنساخ أمراً غير يسير، ولم تكن الكتب في شيء من الكثرة التي صارت إليها بعد انتشار الطباعة. ثم تعاورت الدولة العربية الغزوات البربرية المدمرة، فأباد الوثنيون في الشرق، والنصارى في الأندلس، كرائم المؤلفات ونفائس الكتب العربية، فذهبت بذهاب ذلك آثار أعلام من الأدباء واندثر ذكر آخرين.
وكان للمشادات والمقارعات الدينية والمذهبية والعصبية والسياسية والجنسية التي صحبت قيام الدولة الإسلامية ولازمتها في حياتها يد طولي في العبث بالتراث الأدبي، فأخمل ذكر أدباء انهزم حزبهم أو انخذل مبدؤهم، ونُشر عمدا ذكر من ناصروا الغالبين في كل تلك الحلبات، وتبارى الغالبون والمغلوبون في العبث بتراث أسلافهم الأدبي ونسبة الروايات الملفقة إليهم، ولهم من انتشار الرواية وندرة الكتابة خير معوان.
ويتصل بهذا تقريب الخلفاء والأمراء لرجال الأدب، لا برّاً بالأدب ولكن طلباً للأبهة وبعد الصيت، فقد أصبح اتصال الشاعر أو الأديب بالخليفة أو الأمير ضمان النباهة وسيرورة آثاره في البلاد، كما كان الإخفاق في التقريب إلى أولئك الحاكمين داعياً في كثير من الأحيان إلى خمول الأديب، فنَدَرَ من أعلام العربية النابهين من لم يتصل بالخلفاء والوزراء. ولا يسع المرء إلا أن يتصور أن عصور أبي نواس ومسلم بن الوليد وأبي تمام والبحتري كانت حافلة بأندادهم، وإنما خلصت بهؤلاء لطافة حيلتهم إلى حضرة الأمراء فاشتهروا، وعثر بغيرهم مسعاهم فخملوا. ولقد خمل ذكر ابن الرومي طويلاً وإنه لأشْعَرُ ممن ذكروا جميعاً؛ ولعل من أسباب خمول ذكره فشله في الاتصال بالخلفاء والوزراء.
ولما استرقَّت جوائز الملوك أعناق الشعراء، وأعمل هؤلاء الحيل، وأذالوا الشعر في استرضاء الممدوحين واستجداء الأثرياء، ترفع كثير من ذوي الشرف والأدباء عن الهبوط إلى ذلك المجال، وأحجموا عن نظم الشعر أو التوفر عليه أو الاشتهار به، ولسان حالهم قول الشافعي: