ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد
وإن يكن أبو تمام يقول:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
فإنما كان يعني شعر المتقدمين من جاهليين ومخضرمين ممن تغنوا في شعورهم بالنجدة والمروءة والعزة، وما نخاله كان يعني الشعر الذي كان ينظمه هو وأضرابه واستجداء للرؤساء.
وبذلك حُرمت العربية طائفة من الشعراء لعلهم أسمى طباعاً وأشرف أغراضاً وأصدق شاعرية وأشد حباً للفن من مرتزقة المداحين الذين استأثروا بالجوائز ونباهة الذكر.
ولما فسدت الفصحى تدريجاً باختلاط العرب بالأعاجم العرب بالأعاجم، اشتد الحرص على آثار المتقدمين وتعاظم الإعجاب بهم والرفع من شأنهم، لا لشيء سوى صحة لغتهم واستقامة أساليبهم، وإن كانت أفكار كثيرين منهم على جانب من السذاجة، وأغراض شعرهم على حظ من البساطة، كالحطيئة وابن أبي ربيعة وكثير من الجاهليين.
فهذه عوامل شتى فعلت فعلها البعيد المدى في التراث الأدبي العربي، وساعدت على إعلاء ذكر رجال وخفض آخرين، وهي: ندرة الكتب والاعتماد على الرواية، والأغراض المذهبية، وتسخير الأمراء للشعر، وتكسب الشعراء به، وفساد لغة الكلام، وكوارث الغارات. تحكمت كل هاتيك في أقدار الأدباء وحظوظهم من النباهة، ولم يكن مردّ أمرهم دائماً إلى النبوغ الشخصي والذوق الناقد، فلا نبعد عن الصدق إذا قلنا إن الأدب العربي لم يحتو على خير عناصر المجتمع العربي أو يمثله أصح تمثيل، وإن سجل تاريخ الأدب العربي لا يحتوي على جميع أفذاذ الموهوبين من أصحاب البيان الذين أنجبهم المجتمع العربي.
ومن ثم احتل مكان الصدارة من تاريخ الأدب العربي بعض من لا يستحقون ذلك المكان، ومن لا يعبرون خير تعبير عن أفكار عصورهم وشعورها؛ ومنهم من نال من رفيع الذكر ما هو أهله، ولكنه لم ينله لمزاياه الصحيحة وأسرار نبوغه الحق بل لمساعدة بعض تلك العوامل السالفة الذكر له؛ فقد كان وما يزال من النقاد من يعظم المتنبي لا لأشعاره الصادقة التي أودعها عصارة روحه الكبير، بل لاختراعاته الكاذبة في مدح سيف الدولة وتهنئته