ونجد هذه الهيئة الرسمية التي تضطلع بهذه المهمة الخطيرة ترتفع إلى مرتبة الوزارة، فتجعل الخلافة الفاطمية منها سياجاً منيعاً لإمامتها وزعامتها الدينية
لما استقر الفاطميون بمصر وغدت مصر منزلهم ومثوى ملكهم ودولتهم شعرت الخلافة الفاطمية بالحاجة إلى مضاعفة جهودها المذهبية، ذلك أنها لم تجد في مصر كما وجدت في قفار المغرب الساذجة مهداً خصباً لدعوتها، بل ألفت في مصر مجتمعاً متمدناً عركته الأحداث الدينية والسياسية والفكرية؛ ولم يكن اعتماد الخلافة الفاطمية في بث دعوتها على سلاح التشريع قدر اعتمادها على الدعاية السرية، وغزو الأذهان بطريقة منظمة، لأنه إذا كان التشريع وسيلة لسيادة الكافة وتحقيق الطاعة الظاهرة فإن الدعاية المنظمة هي خير الوسائل لغزو الأذهان المستنيرة وحشدها لتأييد الدعوة المنشودة. وقد كانت الدعوة السرية أنفذ وسائل الفاطميين إلى تبوء الملك، فلما جنوا ثمار ظفرهم الأولى، كانت الدعوة السرية وسيلتهم إلى حمايتها وتدعيمها، فكان لهم دعاة في سائر الأقطار الاسلامية؛ وكانت مصر منزل ملكهم وخلافتهم منبر هذه الدعوة ومركزها ومجمعها، تنساب منه إلى جنبات الإمبراطورية الفاطمية الشاسعة والى سائر الأقطار الإسلامية الأخرى
وكانت هذه الدعوة المذهبية تتخذ منذ البداية صبغة رسمية، ومذ قامت الخلافة الفاطمية بالقاهرة، نراها تنتظم في القصر الفاطمي وتتخذ صورة الدعوة إلى قراءة علوم آل البيت (علوم الشيعة) والتفقه فيها، وكان يقوم بإلقاء هذه الدروس قاضي القضاة وغيره من أكابر العلماء المتضلعين في فقه الشيعة، وكانت تلقى أحياناً في القصر وأحياناً في الجامع الأزهر؛ وينوه المسبحي مؤرخ الدولة الفاطمية بإقبال الكافة على الاستماع لهذه الدروس والجلسات المذهبية فيقول لنا إنه في ربيع الأول سنة ٣٨٥هـ جلس القاضي محمد بن النعمان بالقصر لقراءة علوم آل البيت على الرسم المعتاد فمات في الزحام أحد عشر رجلاً، فكفنهم العزيز بالله. بيد أن هذه الدعاية المذهبية الظاهرة التي بدأت في صورة الدروس الفقهية المذهبية، وهي دروس كان يطلق عليها مجالس الحكمة، كانت ستاراً لدعوة أخرى بعيدة المدى، كانت تحاط بنوع من التحفظ والتكتم) هي الدعوة الفاطمية السرية التي كانت الخلافة الفاطمية تجد في بثها وسيلة لغزو الأذهان المستنيرة وحشدها في حظيرتها المذهبية، الدينية والسياسية؛ وكان من عناية الخلافة الفاطمية بتنظيم هذه الدعوة وبثها أن