للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أكل حنيذاً، وشرب نبيذاً، ونام في الشمس، فمات شبعان دفأن ريّان!

قال الجندي، ولم يفهم منا شيئاً:

- شنوا أنتو يابه؟

قلنا: نحن معلمون!

فضحك وأرخى سنان بندقيته، وقال: معلمون صحيح، أما غير مخبّلين، (وغير هنا للتأكيد ومخبلين، أي مجانين)! وتركنا نمضي لأن المجنون لا يسأل. . .

تلك هي ليلة البلاط، وإني لا أذكرها إلا أسفت على هذه الميتة الحلوة التي فاتتني، وخشيت ألا أتمكن من مثلها، وأظن أنور آسفاً مثلي، إلا إذا استطاب حياته بعد الزواج وتعليم البنات الأدب. . . أما حياتي أنا فليس فيها لذة تستطاب، وليس فيها ألم يستكره. أعني أنني لست إنساناً يحيا ولكن (شيئاً) يعيش!

مالي كلَّ هذه الليلة ذهني، ولم يسعفني شيطاني؟ مالي أكتب عن بغداد، فلا أذكر من أيامها إلا هذا الحديث التافه، وأيام بغداد، مواسم للمجد وأعياد، ولياليها فرحة الفؤاد، وأسرّة للحب ومهاد، وماضيها مآثر ومفاخر وأمجاد؟

مالي لا أتحدث عن دجلة، ويا طول شوقي إليها، وإلى زوارق المحبين وهي تمضي فيها حالمة سكرى، والأغاني تتراقص على أمواجها ضاحكة مرحى، والسمك المسقوف. خبروني، ألا تزال مرفوعة سقوفه. مشتعلة ناره، أم هوت من هول الحرب الدعائم وانطفأت النار؟

مالي لا أناجي إخواني وتلاميذي الذين عشت دهراً من عمري بهم ولهم، وأسألهم أيذكرون هذا المعلم. . . أم قد مرّ في حياتهم مرور شخص (السينما) ثم تنقضي الرواية، ويسدل الستار، فكأنما لا شخص مرّ بهم، ولا (فِلْم) عرض عليهم؟

أما أنا فاشهدوا يا تلاميذي ويا إخواني أني نسيتكم. أأنسى نجدة وعلياً ونزارَ بن البطل الشهيد، إلا إذا نسى الأدب أولاده؟ أأنسى الأخ الأكبر (بهجة) العراق، وقد طالما قبست الجزْل من فضله، ورأيت الفذَّ من نبله؟ ما نسيت، ولئن كبا بي القلم الليلة، فسأعود إلى الحديث عن بغداد، وما كل مرة يكبو الجواد.

وعلى إخواني وتلاميذي وبغداد وأهلها سلام الله ورحمته وبركاته.

<<  <  ج:
ص:  >  >>