الحياة، وهذه الرسائل التي حملت إليك ألف معنى من معاني القبر؛ كل هذه الأشياء التي خرجت بها من أحاديثي إليك قد سطرتها اليوم على صفحات الرسالة. . . وكأني بك قد نفضت يديك من كل أمل في أن تحبب إلى الحياة، فرحت تخصني بهذا الرثاء الصادق قبل الموعد المنتظر؛ الموعد الذي طالما قلت لك عنه إنني أترقبه في الغد القريب)!
ومرة أخرى سكت الصوت المتهدج لحظات. . . وغمرت شعوري موجة من الأسى وأنا أجيبها في تأثر عميق:(الحق يا ناهد أنني لم أستمد موضوع كلمتي من حياتك، وإنما كانت هناك حياة أخرى هي التي أوحت إلى ما كتبت. . . وما أكثر الذين يشكون إلى الحياة في قصص تفيض بالدمع، وتتشابه في قصتك وقصصهم ألوان من الحقائق النفسية. حسبك يا آنسة أن تقرئي هذه القصة لتعلمي أنك لا تقفين وحدك في زحمة الوجود متفردة بالمزاج القاتم والطبع الحزين، إن لك هناك أشباهاً ونظائر، تتمثل لهم الدنيا من وراء المنظر الأسود وهي غارقة في الظلام! لو رفعت هذا المنظار عن عينيك وأنت تقرئين هذه القصة لشعت منها روحك ومضات العزاء، ولكنك تأبين إلا تنظري من خلال ضبابه إلى كل شيء. . . إلى الحياة التي تبد لعينيك مظلة وهي مشرقة، عابسة وهي باسمة، حافلة بأشواك اليأس وهي ملأى بزهور الأمل)!
وقالت قبل أن تنهي الحديث وتلقي بسماعة التليفون:(أقسم لك أنني أشعر شعوراً خفياً بأنني لن أعيش، لأن الحياة لا يمكن أن تحتمل فتاة من هذا الطراز. . . لقد كانت (قصة الدموع التي شابت) أبه بمرآة صافية وقفت أمامها طويلاً لأرى نفسي. . . وسواء قصدتني بها أم لم تقصد، فإنني سأضعها داخل إطار يضم صورتي الحقيقة التي يجهلها أقرب الناس إليّ وتعلمها أنت. . . أنت الذي شكوت إليك آلامي فلقيت منك عطف الأخ الشقيق وعرضت عليك شعري فلم تبخل عليّ بنصحك وتشجيعك. . . إن في هذا كله عزاء أي عزاء، ولكنني أقسم لك مرة أخرى أن الشعور بأن مقامي في هذه الحياة قصير، حقيقة نفسية ترسب في أعماق رسوب الإيمان بالله. . . مهما يكن من شيء فسأذكر دائما بوعدك، وهو أن تنشر (قصة الدموع التي شابت) في يوم من الأيام)!!
وماتت ناهد طه عبد البر. . . وكأنما كانت تخترق بشعورها المرهف حجب الغيب، وتنفذ بوعيها الباطن إلى ما وراء المجهول. . . ماتت دون أن تظفر من أحلام دنياها بغير هذا