السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت. . . ولهذا تأنق الكاتب في الرسالة والخطيب في الخطبة والشاعر في القصيدة، يبالغون في تجويدها، ويغلون في ترتيبها، ليدلوا على براعتهم. . . ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا أكثر ذلك فربحوا كداً كثيراً)
والحق أن اظهر الدلالات في مفهوم البلاغة هي أناقة الديباجة ووثاقة السرد ونصاعة الإيجاز وبراعة الصنعة؛ فإذا كان مع كل ذلك المعنى البكر والشعور الصادق كان الأعجاز. وليس أدل على أن الشان الأول في البلاغة إنما هو لرونق اللفظ وبراعة التركيب، أن المعنى المبذول أو المرذول أو التافه قد يتسم بالجمال ويظفر بالخلود إذا جاد سبكه وحسن معرضه. ولا باس أن اقدم إليك مثلاً من آلاف الأمثلة بلغ معناه الغاية في السوقية والفحش، ومع ذلك تحب أن تسمعه وتحفظه وتعيده لأنه بلغ من سر الصناعة غاية تظلع دونها أكثر الأقلام
قال أبو العيناء الأعمى لابن ثوابة: بلغني ما خاطبت به أبا الصقر؛ وما منعه من استقصاء الجواب إلا أنه لم ير عرضاً فيمضغه، ولا مجداً فيهدمه
فقال له ابن ثوابة: ما أنت والكلام يا مكدي؟
فقال أبو العيناء: لا ينكر على ابن ثمانين سنة قد ذهب بصره، وجفاه سلطانه، أن يعول على إخوانه. . . ثم رماه بمعنى فاحش مكشوف. فقال له ابن ثوابة:(الساعة آمر أحد غلماني بك). فقال أبو العيناء:(أيهما؟ الذي إذا خلوت ركب، أم الذي إذا ركبت خلا؟)
فانظر في هذه الجملة الأخيرة تره رمي ابن ثوابة في نفسه وفي زوجه، وهما معنيان سوقين يترددان كل ساعة على السنة السبابين من أوشاب العامة، وانك مع ذلك تقف من هذه الجملة موقف المشدوه والمعجب، تحرك بها لسانك، وتعمل فيها فكرك، وتعرضها على مقاييس البلاغة وشروطها فتطول على كل قياس وتزيد على كل شرط. تأمل هذا الإيجاز البارع بحذف متعلقات الفعلين وفيها جوهر المعنى وإصابة الغرض، تجد سر البلاغة كله فيه؛ لأن هذا الحذف مع وضوح المعنى قد نزه الكلام عن صراحة الفحش، وصان المتكلم عن ذكر القبيح، فلو أنه قال خلوت بكذا وخلا بكذا، وركبت كذا وركب كذا، لانحط الكلام