مظلماً من تلك الأزقة التي تعج فيها رائحة العفن ويتعالى الغبار. . . فينقبض صدر الطفل. . . فقد حدثوه أن الشيخ كامل، وهو مصدر التقوى والعفة والصلاح - كما حدثه أبوه - ومصدر الخبث والشر والفساد - كما حدثه رفيقه - يقطن بهذا الزقاق. فيبكي الطفل بدموع غزَّر ويحاول الفرار، ولكن الأب ممسك بيد ابنه يجره ويدفعه ويغريه باللعب إذا بلغ البستان، وينفحه (بنصف مجيدي) لينقطع عن البكاء. حتى إذا بلغ غاية الزقاق، عرج به فطرق باباً غليظاً. ويقف الطفل، ما يدري لِمَ يجره أبوه وهو الذي يحبه، ولم يدفعه وهو الذي يؤثره على نفسه.! ويفتح الباب شيخ هم، كان كلما تمثله في خاطره بعد ذلك اليوم قف شعر رأسه، وأغمض عينيه من الاشمئزاز: فقد بقى في ذاكرته، أنه كان ذا قامة فارعة، مسنون الوجه أسمره، خفيف العارضين، لم تبق الأيام من لحيته إلا شعرات لا لون لها نبتت هنا وهناك، تقفز وتهتز كلما ضحك أو تكلم. وبقى في ذاكرته أيضاً أنه كان أدرد، إلا من بضعة أسنان ملتوية صفراء تبعثرت في فمه الذي حسبه مغارة الجن ومأوى الشيطان. أما عيناه فكانتا غائرتين صغيرتين. . . يرد الذباب على موقيهما ليرتشف الطيبات، وهو يذكر أيضاً تلك السبحة الطويلة التي علقها في عنقه. . . وحسب حباتها الكبيرة (دحاحل) رفقائه الصغار، وتلك الجبة التي حال لونها وسخف نسجها. ويبادره الأب بالسلام، فيهش الشيخ ويبش، ثم يرحب ويقول: ما شاء الله. . . ما شاء الله. . . ثم يربت على كتف الطفل مردداً كلمات وتعاويذ لم يفهم الطفل لها معنى وإن كانت أطربته فأنصت لها. ويدخل الأب ويتبعه الطفل قائلاً بصوت حزين:(أهنا البستان يا بابا؟) ولكن الأب يحتال عليه ويسلمه للشيخ ليطعمه من نقله المبارك. فيدخل الطفل تتنازعه الرهبة من أبيه والرغبة في نقل الشيخ، ويرى فيما يراه آنئذ غرفة مظلمة سوداء لقي فيها رفقاءه الصغار؛ وقد جلس أحدهم فوق قطعة من الحصير البالي، يردد كلمات أفزعته وأضحكته، منحنياً إلى الأمام وإلى الوراء؛ ووقف ثانٍ يحملق فاغراً فاه؛ وانحنى ثالث يبكي بكاء كعواء الكلاب؛ فتستولي الكآبة على الطفل وينقبض صدره، ويرتد راجعاً ليرى أباه، فإذا بأبيه قد فر، وإذا بالشيخ يلحق به ليرجعه وفي يده بضع (سكرات) يدفعها إلى فمه الصغير. ويجلس الطفل بجانب الشيخ على دكه من القش. لقد جال بصره في هذه الغرفة الحقيرة، فرأى أشياء أنكرها، ولم يكن له بها عهد من قبل: شعر بهذا الظلام الذي يرفرف فوق الغرفة فيجعلها