كالقبو الذي تضع فيه أمه ما رث من الأثاث، ورأى هذه العناكب التي امتدت في أعالي الجدران كأنما تريد أن تزّين الغرفة كما تزّين أمه الجدران بأوراق الشجر وأزاهير البستان، ولمس الحصير البالي فأبصر الخشب وقد نخره السوس، وحدق بتلك الخشبة المستديرة المستطيلة كبندقية خاله التي ودّ لو يحملها ليصبح جندياً فأبوا عليه ذلك، فتساءل لم عّلَّقها الشيخ ولم يهدد بها الصبيان؟
عندئذ ضاقت نفس الطفل فانفجر باكياً. . . ويقوم الشيخ ليخفف عن الطفل حزنه. . . ويكفكف دمعه، والصبيان يرمقونه دهشين، يحسدونه على ما يلقى من عطف، وما يظهره الشيخ من لطف، على حين يضربهم ضرباً ويصفعهم صفعاً. . . ولكن الطفل لا يهدأ، بل يزداد بكاءً وصراخاً، شأن الأطفال كلهم، فينادي الشيخ زوجته (الشيخة صفية)، التي علم الطفل أنها تجمع النساء يوماً في الأسبوع، ليقرأن معها (الوردُ)، وينقرن الدفوف، ويهززن الروادف والبطون ابتغاء مرضاة (الشاذلي) وتقرباً من الرسول. . . وما يكاد يراها طفل حتى يتولى عنها؛ فإن تلك الشعرات الطويلة التي تنبت على شفتها العليا، وتدلت فوق فمها الرخو أزعجته، على الرغم من دعائها له، وصلاتها على النبي، وقبلاتها التي اقشعر منها بدنه. . . فيعود إلى غرفة الشيخ يسأله عن أبيه، فإذا يجده يصرخ برفيق له، ثم يدفعه إلى الأرض ثم يعمد إلى تلك الخشبة المستديرة، فيجعل رجلي الطفل بين الحبل والخشب، ويفتل الخشبة مع صبي آخر. . . ويضربه بقضيب من خيزران ضربات موجعات فيصيح الصبي ويستعطف الشيخ، ويقسم لئن تركه ليحفظن الدرس ولكن الشيخ لا يلتفت إليه، فهو لاه عنه بعدّ الضرباتّ. . .
ويرأرئ الدمع في عيني الطفل - شفقة على رفيقه الصغير - فيهب منادياً:(هذا رفيقي. . . ليش تضربه؟)
فيحدق الشيخ في الطفل يوعده بالجزاء، فترعبه نظراته ويلجأ إلى البكاء. . . ويصرخ ويصيح. . . وينادي أمه وأباه، ويضرب وجهه بكفيه والأرض بقدميه، فيحوقل الشيخ ويرجع ويترك الصبي ليرضى الطفل، والطفل يبكي ويصيح. . . فيمضي الشيخ. . . ليأتي (بسكاكره) المحورة، فينقطع الطفل فجاءة عن البكاء. وينظر إلى رفاقه ويقول: