قلوبهم، الذين نرى ظواهرهم لاهية، ويرون حقائقهم قاسية. وكأنما رأى أن الهزل يسرِّي عنه بعض ما يجده، فبقي يضحك الناس عمرا طويلاً حافلاً، وكان خير ما أرضاه أنه أراد أن يستوي على عرش الهزل استيلاء الحاكمين على عرش الجد، فكان له ما أحب منذ بلغ أشده حتى رد إلى أرذل العمر فمات.
وبعد، فكأنما كان هذا الظريف - حتى في شيخوخته - يعاند الدهر ولا يريد أن يموت: فقد ركب سنة ثلاث وثمانين ومائتين سفينة إلى البصرة وكان فيها ثمانون شخصاً، فغضبت العاصفة غضبتها، وثارت الأنواء ثورتها، فحطمت السفينة وأغرقت ركابها، فما نجا منهم سوى أبي العيناء إذ تعلق بطرف الزورق فأخرج حياً لكنه لم يستطع أن يعاند الدهر من جديد فقد عاجلته منيته في هذه السنة فمات كما جزم المسعودي في (مروج الذهب)
مات وما زال الظرفاء يتندرون بمداعبات أبي العيناء؟
مات فسكت ذلك اللسان السليط، وشلت تلك الحركة التي لا تعرف السكون!
ولكن. . . لقد عاش هذا الظريف ضاحكا طول الحياة، حتى إذا حضر الموت أرسل دمعة أو دموعاً وهو يودع الدنيا قائلا:
يا ويح هذي الأرض ما تصنع ... أكل حي فوقها تصرع؟
تزرعهم حتى إذا ما أتوا ... أشدهم تحصد ما تزرع!
وبعد، ففي كنوز الأدب العربي لآلئ نادرة كأبي العيناء، خليق بأيدينا أن نقع عليها لنخرجها لشبابنا الناهض فتسحر القلوب وتخطف الأبصار.