للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

اعترضه يوماً أحمد بن سعيد فسلم عليه فقال له أبو العيناء: من أنت؟ قال أنا أحمد بن سعيد. فقال: إني بك لعارف، ولكن عهدي بصوتك يرتفع إليَّ من أسفل، فما له ينحدر عليَّ من علو؟ قال: لأني راكب. فقال: عهدي بك وأنت في طمرين لو أقسمت على الله برغيف لأعضك بما تكره).

وهو يمازح من يعرف ومن لا يعرف، ومن يروق لعينه وقد لا يروق لأعين الناس، ولا يعنيه إلا أن يكون ضاحك السن، سواء أضحك منه الفؤاد أم بات في هم دفين.

وقف عليه رجل من العامة فلما أحس به قال: (من هذا؟ قال: رجل من بني آدم. قال أبو العيناء: مرحباً بك - أطال الله بقاءك - كنت أظن أن هذا النسل قد انقطع).

وهذه الدعابات قليل من كثير تجد بعضها في معجم الأدباء في ترجمة محمد بن القاسم أبي العيناء ونلمح في كل هذه الدعابات أو أكثرها إشارة عنيفة إلى تمرده على البشر، وتشاؤمه منهم، وقلة إيمانه بهم!

وجميل بنا أن نذكر أنه عاش فقيراً، ولكنه - على قلة ذات يده - كان يملأ قلبه العطف: يطعم المسكين، ويرحم الضعاف العاجزين، ويلذ أن يداعبهم كما يداعب غيرهم لعلهم يطربون: دعا سائلا ليعشيه فلم يدع شيئاً إلا أكله فقال له: (يا هذا، دعوتك رحمة فاتركني رحمة)

بيد أنه إذا اشتدت به الحاجة لا يسأل من أي سبيل يجمع ماله: قال أبو العيناء (مررت يوماً في درب بسرَّ من رأى فقال لي غلام: يا مولاي في الدرب حَملٌ سمين والدرب خال. فأمرته أن يأخذه، وغطيته بطيلساني وصرت به إلى منزلي. فلما كان من الغد جاءتني رقعة من بعض رؤساء ذلك الدرب مكتوب فيها: جعلت فداك: ضاع لنا بالأمس حَمل فأخبرني صبيان دربنا أنك أخذته، فأمر برده متفضلا. فكتبت إليه: يا سبحان الله! ما أعجب هذا الأمر! مشايخ دربنا يزعمون أنك بغَّاء وأكذبهم أنا ولا أصدقهم، وتصدق أنت صبيان دربك أني أخذت الحمل؟ قال: فسكت ولم يعاودني).

وهو في العداوة خصيم مبين: يشمت ويتمنى الشر والضر. مر يوماً على دار عدو له فقال: ما خبر أبي محمد؟ فقالوا: كما تحب قال: فما لي لا أسمع الرنة والصياح؟)

وعلى كل حال، فقد كان هذا الشاعر الظريف من هؤلاء الأفراد الضاحكة وجوههم الباكية

<<  <  ج:
ص:  >  >>