ورماله، وذلك من حكمة الله فإنه لولا حب الوطن ما سكن البلد القفار! فمن قولهم فيها:
أيا رفقة من آل بصرى تحملوا ... رسالتنا لقيت من رفقة رشدا
إذا ما وصلتم سالمين فبلغوا ... تحية من قد ظن ألا يرى نجدا
وقولا له ليس الضلال أجازنا ... ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا
ولبثنا فيها إلى موهن من الليل ثم خرجنا يصحبنا دليل من أهلها ليسير بنا إلى (قريات الملح) القرية التابعة لأبن سعود من غير أن نمر على المخفر الإنكليزي في (الأزرق) لأننا لم نستأذن من القنصل الإنكليزي لنمر على بلد من بلادنا. . . وكان أسم الدليل الحاج نمر، وقد زعموه خبيراً بالطرقات، عارفاً بالأرض، خرْيتاً حاذقاً، فتوكلنا على الله، ثم على هذا الدليل الحاذق!
سرنا إلى الجنوب، نخبط في ظلام الليل، لا نتبع جادة مسلوكة، ولا طريقاً واضحاً، يقودنا الحاج نمر. ويا ليت أسمه الحاج غراب، فقد أضلنا، كما (قد ضل من كانت الغربان تهديه). . . حتى بلغنا قرية كبيرة أسمها (أم الجمال) فيها بنيان كثير، وأزقة وطرقات، وفيها برج عال قديم، ولكنها مهجورة منذ قرون. . . ليس فيها ديْار ولا نافخ نار، وهي موحشة في رأد الضحى فكيف بها في الليلة الظلماء؟ فما كان من صاحبنا الحاج غراب إلا أن دير به وغثت نفسه وجعل من الدوار والغثيان يقيئ وفقد رشده، فصبرنا عليه حتى أفاق فسألناه عن أمره، فإذا هو لم يركب في عمره سيارة قط ولذلك دار رأسه، فعالجناه حتى بريء فلما رأى الطريق مختلطاً عليه، فأمرنا بالوقوف في هذه البليدة الموحشة التي لا يسكنها إلا الجن. . . وذهب في سيارة يكشف لنا الطريق، فانتظرناه إلى الفجر فلم يرجع، وكانت ليلة ما أذكر أني رأيت مثلها برداً، ونحن في العراء فأحسست والله كأن عظامي ترتجف من البرد، وبلغ منا النعاس وما نطيق أن ننام، وأين وكيف ننام؟
فلما طلع النهار، وتعارفت الوجوه، رأينا الحاج غراب على بعد خمسين متراً منا، وإذا المحترم ينتظر أن نأتي إليه. . .
وأردنا على الإسراع قبل أن يبصرنا بعض أعوان المستر كلوب، ملك البادية المسمى (أبو حنيك) لأن رصاصة كانت قد أصابت حنكه فتركت فيه أثراً. وسألناه، هل يعرف الطريق أم يخبط بنا خبط أعشى، فعجب من سؤالنا وأكد لنا أنه يعرف البلاد كلها شبراً شبراً، وأنه