سلك هذه الطرق بعدد شعر رأسه، فاطمأننا وسرنا معه، وكانت الشمس قد طلعت، وانقضت أول ليلة من ليالي الرحلة.
فاطمأننا وسرنا معه، فصعد بنا جبلاً وعراً فيه أحجار وحفر، فسرنا فيه ساعة كاملة وهو لا يزداد إلا وعورة، فقلنا له: ويحك يا هذا، إلى أين تمشي بنا؟ قال: إن علينا أن نجاوز هذه الوعرة، كي نبلغ قريات الملح من غير طريق الأزرق فقلت له: ويحك، هذا والله البلاء الأزرق والموت الأحمر. وأنه ليوشك إذا أوغلنا في هذه الوعور ألا نخرج منها، فعد بنا ولو إلى الأزرق، فماذا في الأزرق إلا الجزاء النقدي؟
واختلفت الآراء وتجادل القوم، ثم اتفقوا على العودة، فعاد بنا الدليل من حيث جاء، حتى إذا هبطنا الجبل سار بنا في طريق معبدة فسرنا فيها، ثم سرنا وهي لا تنتهي حتى كاد النهار يزول، ثم وجدنا مركزاً من مراكز البترول فيه ضابط إنكليزي، فسألناه: إلى أين تؤدي هذه الطريق؟ فقال: إلى العراق، وقد اقتربتم من الحدود.
فوثب أصحابنا على الدليل يوسعونه سباً وشتماً على أن طوَّح بهم حتى كاد يهلكهم بجهله، وهو صابر ساكت لا ينطق بحرف، فتركه القوم وائتمروا بينهم فقال قائل منهم: أني لأعرف طريقاً في الحرة يصل بنا إلى القريات، وقد جزته فوجدته سهلاً. فقالوا له: سر بنا إليه، فمال بهم ذات اليمين، ثم دار دورة فإذا نحن في حرة من أصعب الحرار واسعة ممتدة الجوانب ملتوية مفروشة بحجارة سوداء لماعة، كأنما قد صبَّ عليها الزيت، حادة الجوانب كأنها السكاكين، فلما بلغنا وسط الحرة رأينا الجادة متروكة مهملة قد تخربت وغطتها الحجارة، فكنا ننزل من السيارة فنزيح الأحجار من طريقها لنمشي؛ وكنا إذا بلغنا هضبة لم تقوَّ السيارة على تسنمها نزلنا فربطنا السيارات بالحبال فجررناها بأكتافنا واحدة واحدة كما تجر الدابة الحرون، واستمر بنا ذلك إلى الغروب، وامتدت بنا هذه الطريق تسعين كيلاً رأينا فيها الموت مما تعبنا، ولم نقف إلا ساعة أكلنا فيها وصلّينا، فلما أن غابت الشمس يّسر الله لنا الخروج من هذه الحرة؛ فلما خرجنا منها إذا نحن حيال قصر الأزرق ليس بيننا وبينه إلا أربعة أكيال أو أقل منها؛ وكان إلى يسارنا أدغال وعرة فيها نبت من نبت الصحراء، فلم نجد بدّاً من دخولها، فدخلناها مكرهين تقوم بنا السيارة وتقعد وتميل وتعتدل حتى أظلم الليل، وبلغنا قاعاً مستوياً فوقفنا وأنخنا للمبيت؛ وكنا حين انتهينا إلى الأزرق بعد