فغدا الأكول صنما لا يبين، وصدق عليه قول القائل:
أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل
فما زال منه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم بأقل
تجهز كفاه ويحور حلقه ... إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل
ومن اطلع على هيئة هؤلاء في أثناء تناول الطعام اخذ منه العجب كل مأخذه ليحقن في وجوههم فتربد، وان أيديهم ليسرع في القذف وللقم وان أعضاءهم لا تستقر على حال من القلق حتى يبلغوا ما يريدون.
(امتنع الحارثي عم مؤاكلة صديقه الأسواري فيقل له في ذلك، فقال: ما ظنكم برجل نهش قطعة لحم فانقلع ضرسه وهو لا يدري! وكان إذا أكل ذهب عقله وجحظت عيناه وسكر، وسدر، وتربد وجهه، وغضب ولم يسمع ولم يبصر فلما رايته وما يعتريه ويعتري الطعام منه صرت لا أذن له. . . الخ)
وقد أجاد ابن الرومي حين شبه هؤلاء بمن أصيبوا بالحمى فهم معها في تغير دائم، وانفعال مستمر اسمعه إذ يقول:
تعلوه حمى شره ناهض ... لكن حمى هضمه صالب
كأنما الفرّوج فيكفه ... فريسة ضرغامها دارب
ذي معدة ثعلبها لاحس ... وتارة ارنبها ضاغب
وابن الرومي اقدر من غيره على الإجادة في هذا الفن فقد كان كما يقول صاحب زهر الآداب منهوماً شرها، وكان جشعه من أسباب حتفه، وله في المآكل وصف طويل فهو أذن ينطق عن خبرة وابتلاء، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده، وأنت ترى وصفه للمنهومين ينبئ عن حصافة ويخبر عن دقه ووعي كقوله:
ألم تره لو شاء بلع تهامة ... وأجبالها طاحت هناك بلا ارش
على انه ينعى إلى كل صاحب ... ضروسا تأتي على الصلب والهش
تخبر عنها أن فيها تثلما ... وذلكمو أدهى وآكد للجرش
ألم تعلموا أن الرحى عند نقرها ... وتجريشها تأتي على الصلب والهش
وهو في قوله هذا متخصص متفنن يغوص على المعنى الخفي ويأتي بالتعليل المطابق