الموسيقى الغربية، والموسيقى العربية، ويفضل إحداهما على الأُخرى ناسياً الذوق، والطبع، والعادة، والبيئة - لهو أبعد الناس عن الموسيقى وعن الفن الصحيح وان كان هو يأبى ذلك. فليس الفن أرقاماً تجمع وتطرح وتحفظ وتعرف وإنما هو قوة هائلة معجزة يسوقها الملهم العبقري أمواجاً سحرية ولو كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعرف النيمات والتيكات والعربات. . .!!
(فموزار) الموسيقار الألماني الخالد عزف وهو في طفولته على البيان والكمان والأرغن من غير أن يتعلم درساً واحداً عليها!! ولعل القارئ يدهش حينما يعلم أنه كان يسبق الأساتذة الذين أتى بهم لتعليمه، وتوجيه عبقريته في الوجهة الصحيحة (كما كانوا يزعمون) حتى إن أحدهم بكى أمام سحر الطفل، وقال لوالده:
(ليس عندي ولا عند غيري ما يجهله ابنك، إنه ابن الموسيقى وقد علمته سرها وسحرها!)(وبتهوفن) الذي كان يطلق عليه (إله الموسيقى) والذي أرهقه أبوه في طفولته وظن أن كثرة (التعليم والإرشاد) تنفعه. كان يبكى لأمه ويشكو ظلم هذا الوالد ويقول لها: لقد أوشك أبي أن يبغضني في الموسيقى وفي الحياة نفسها. . . فلما تركوه وشأنه كان لا يفارق البيان أبداً إلا ليأكل أو لينام. . .!! وبعدها أخرج آياته الخالدة التي لا تزال إلى اليوم سمواً لا يدانى. . .
قد يقول قائل وما فائدة تلك المدارس إذن، وما فائدة هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم للتدريس وجعلوا من أنفسهم حفظة لقواعد الموسيقى وعلومها. . .؟
فائدتهم التوجيه والتهذيب فقط. أما الخلق والابتكار والقدرة والسيطرة والتحكم في ميدان العواطف، أما التغلغل في الأعماق والسريان في الدم والتلاعب بالأرواح، فهذا كله لا يعرف العلم، ولا يخضع للعلماء. . .!
أن الذي يغني أو يعزف لا يصف النظريات، ولا ينتقل من نغم إلى نغم مرسوم موضوع، وإنما هو ينطلق بروحه فتتحكم في لسانه أو بنانه وتروح مستولية على خلجات المستمعين، وطوبى لمن يأسره فنه أولاً قبل أن يأسر غيره لأنه يفعل العجب. . . ولا يهمه بعد ذلك أخرج على (الوحدة) أم ظل محافظا عليها، ولعل من هذا الباب قصة المرحوم (عبد الحي حلمي) الذي كان يشدو ليلة كبلبل نشوان والناس من حوله سكارى من خمر الطرب فخرج