صديقي فرأيته يتحدث ويقول: أسكتي، تأدبي. والله إن لم ترضى لأهيننك. فقلت له: يا رجل، رأيتك تتحدث وليس معك أحد، فمن تخاطب؟ قال: أخاطب نفسي، فإنها لما رأتني جلست آكل تقززت مني. فقلت له: سمعتك تقول تأدبي وإلا أهينك، فأي عمل أشد إهانة لها من عملك هذا؟ فالتفت الرجل مستغربا، فقال لي: يا مسكين، إن في الأعمال ما هو أخس من عملي وأقذر، ذلك مسألة الناس شيئا.
والإسلام لم يبح السؤال إلا للعاجز عن الكسب عجزا تاما، ومع ذلك دعا إلى التعفف، والإجمال في المسألة وعدم الإلحاف فيها، حتى استحسن العلماء أن يكون الرجل عييا في المسألة، وعند وصف الفاقة، فذلك أدل على كرم الطبع والأنفة من حال المسألة، والتصون من ذكر الفاقة، وقد مدح الله قوما بمثل هذا فقال:(يَحْسَبَهُمْ الجاهِلُ أَغنياءَ مِنْ التَعَفُفِ، تَعْرِفَهُمْ بِسيماهُمْ، لا يَسْأَلونَ الناسَ إِلحافا)
لكن المحترفين للسؤال يطاردونك مطاردة من له عليك دين، وربما تطاولوا عليك وسبوك. روي أن سائلا وقف على باب قوم يسألهم فقالوا: يفتح الله عليك، فقال: كسرة، قالوا: ما نقدر عليها، قال: فقليل من بر أو فول أو شعير، قالوا: لا نقدر عليه، قال: فقطعة دهن أو قليل من زيت أو لبن، قالوا: لا نجده، قال: فشربة ماء، قالوا: وليس عندنا ماء، قال: فما جلوسكم ههنا؟ قوموا فاسألوا فأنتم أحق مني بالسؤال!
ولا شك عندي أن هؤلاء - إذا كانوا صادقين - أحق بالسؤال من هذا السائل الوقح، ولكنهم قوم كرماء النفوس يصونون ماء وجوههم، ويعتزون بأنفسهم، ويخفون ما بهم من ضر وحاجة. وقد قرأت في تاريخ السودان أن الرجل كان إذا احتاج أغلق عليه باب داره، ومكث فيها حتى يموت، وقديما قال الشاعر الجاهلي (الشنقري)
أطيل مطالَ الجوعِ حتى أميته ... وأضرِب عنه الذكر صفحا فأذهل
وأستف ترب الأَرض كي لا يرى له ... على من الطول إمرؤ متطول
وقديما سأل رجل أبا دلف العجلي، فقال أبو دلف: أتسأل وجدك الذي يقول:
ومن يفتقر منا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
فخرج الرجل، وجرد سيفه، وعاش عليه.
وهناك جماعة يعيشون على كسب غيرهم، وهم - في نظري - لا يختلفون على عن