هؤلاء في السؤال في شئ، فقد تعجبك هيئة الرجل ووجاهته، فإذا سألت من أين يعيش؟ قيل لك أن له أخا أو أبا أو قريبا غنيا فهو ينفق عليه ويعطيه، أو أن له أصدقاء وتلاميذ يعودون عليه بالخير، ويغمرونه بالهدايا والألطاف، فمنها يعيش. وتحضرني دائما عند ذكر هؤلاء قصة الرجل الذي قيل للنبي (صلى الله عليه وسلم) فيه إنه صوام قوام متبتل؛ فسألهم: فمن يصلح له أمره، ويكفيه ما يهمه؟ فقالوا: كلتا يا رسول الله، فقال: كلكم خير منه. كما يحضرني الحديث الشريف: أشد الناس عذابا يوم القيامة المكفي الفارغ. وقول خليفة المسلمين يزيد بن عبد الملك: ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا لئلا أتعود العجز.
فمن أراد أن يتفرغ لعبادة ربه، فليكتف من أمر الدنيا بالقليل. واعجب ما في أر هؤلاء أنهم يبررون أخذهم لهذه الأموال بأنهم ينفقونها في سبل الخير، وما علموا أنها أموال لا وجه لعمل فيها، ولقد حدث العالم الكبير عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان يضارع أبا حنيفة في الفقه قال: إني لأساير رجلا من وجوه أهل الشام، إذا مر بحمال معه رمان، فتناول منه رمانة فعجبت من ذلك، فمر به سائل، فمر به سائل فناوله أياها، فقلت له: رأيتك قد فعلت عجبا، قال: ما هو؟ قلت أخذت رمانة من حمال وأعطيتها سائلا، قال: وأنك ممن يقول هذا القول؟ أما علمت أني أخذتها وكانت سيئه وأعطيتها فكانت عشر حسنات، فقلت: أما علمت أنك أخذتها فكانت سيئة، وأعطيتها فلم تقبل منك. قلت: ومنطق هؤلاء لا يختلف في شئ عن منطق ذاك الرجل.
(وبعد) فكيف نعالج هذا الداء المشين، لعلي لا أبعد كثيرا إذا قلت إن العلاج الوحيد هو أن نفهم الناس دينهم على حقيقته، وأن يتأكدوا أن هذه المظاهر تشين الوطن، وتحط من قدر الأمة، والنفوس بطبيعتها شحيحة فلا يمكن أن ندعوها إلى أن تزيد في شحتها، ولكن ندعوها إلى أن تتلمس ذوي الحاجة من الأقرباء والجيران والمعارف فتدفع إليهم ما تجود به، وأن تمتنع امتناعا تاما عن إعطاء هؤلاء الذين يتجرون بالسؤال. وليس صحيحا ما يفهمه الناس إعطاء السائل ولو جاء على فرس، فإن ذلك إذا لم يجد المعطي من هو أحوج من الفارس، وإذا لم يكن صاحب الفرس قد اشتراه من أموال الناس التي سألهم إياها!
وأن يعلم هؤلاء الذين يعيشون على أرزاق غيرهم من الناس أن الموت أهون من ذل السؤال، وأن الإنسان لا يجد عوضا عن ماء وجهه الذي يبذله، وصدق الشاعر: