نفسي إلى الناس: ذلك يوم سفر المفاوضين المعاهدين إلى إنجلترا! فقد ازدهاني أن يتفاهم الحق والقوة، ويتفق منطق القلم ومنطق السيف، ويقتنع (المبرنطون) بأن وطننا لنا وحدنا، وأن أصحاب (الامتياز) أصبحوا بشراً مثلنا، فدخلت في غمار الشعب الهاتف، وأثرت زحمة الدهماء ووقدة الشمس على مخالطة الأقدار الكبيرة والأحلام الرصينة في ظلال السرادق، وركبت زورقاً من زوارق الميناء في جمهرة من الشباب الفقراء الذين يجهلون معاني (النيابة) والوظيفة والجاه، فيشاركون في المظاهرات لأنها صرخة الوطن، ويهتفون للزعيم لأنه ممثل الأمة، ويصفقون للمعاهدة لأنها صك التحرر.
سار بنا الزورق الراقص الشادي بين عشرات من الزوارق المزدانة المهللة حتى حاذينا (النيل)؛ والنيل قطعة من الوطن المحبوب تجمَّع فيها أمله المنتشر، وبدأ عليها تاريخه الجديد، ستقطع هذا الخضم المزبد إلى الشاطئ البعيد عليها صداقة مصر لإنجلترا، يقدمها وفدها الأمين إلى الذين عرفوه بعد إنكار وسالموه بعد حرب؛ وما كانت سياسته في الأول إلا سياسته في الآخر لولا سوء الفهم وسوء الظن وسوء الضمير. فلما انحسر لثام الرياء عن الأوجه المغشوشة فينا وفيهم، خلص منطق النحاس إلى عقل إيدن، واقتحمت النيل الوداعة مرابض الأسطول.
تحركت الباخرة المزهوة الفخور بعد حفلة الوداع بين عزف الموسيقى وقصف المدافع وصفير البواخر وتصفيق المودعين وهتاف المتفرجين وزغردة النساء؛ فكان من ذلك كله نشيد وطني عجيب التأليف بديع التلحين سحري الإيقاع عبر بهذه القوّة عن الشكر لقادته، والخير لحليفته، والاطمئنان إلى مستقبله.
كان اعتماد الجمهور في التنفيس عن حماسته المضطرمة على الضرب بالأرجل، والتصدية بالأيدي، والتلويح بالأذرع، وما يلازم هذا من اضطراب الحركة وفقدان الاتزان وشيوع الفوضى، وانتقال أثر ذلك كله إلى الزورق! فلو كان للشعب شعراء وموسيقيون، كما كان له زعماء وصحفيون، فوضعوا له الأناشيد التي تعبر عن عواطفه في وحدة، وتهيمن على مواقفه في نظام، لما تعرضنا مراراً للغرق!!!
على أن الغرق لم يقع في حسابي وأظنه لم يقع في حساب أحد، فقد كان فُلكنا المتواضع يجري تحت (النيل) الباذخة كأنه الفرخ الوليد تحت جناح النسر؛ عيوننا ترمق الزعيم