ويظل صدقه وعمقه وحرارته خير مقياس لصدق الأدب ورقيه، ويقترن ضعفه وتلاشيه بضعف الأدب وفتور العاطفة فيه وتغلب اللفظ على الشعور الصحيح؛ ففي عصور تدهور الأدب يسود الضرب الموضوعي، وتنفق موضوعات بذاتها يصطلح الأدباء على طرقها على أساليب مخصوصة لا يعدلون عنها، ويكفكفون عواطفهم الذاتية، فلا يكاد يتميز واحد منهم عن الآخر في السمات والميول؛ فالضرب الموضوعي يظهر متأخراً عن الضرب الذاتي في الآداب، ثم يبقى متخلفاً عنه عند اضمحلال الأدب، يبقى على حال من الضعف والتكلف والإبهام
ولما كان الضرب الذاتي من الأدب أسبق إلى الظهور في تاريخ الأدب، كان مقترناً بالشعر الذي هو أسبق إلى الظهور من النثر الفني فالأدب في عهوده لا يكاد يزد على أن يكون شعراً ذاتياً، فإذا دخل الأدب طوره المتحضر الفني ظهر فيه النثر وظهر الضرب الموضوعي في الشعر والنثر معاً، بيد أن الشعر يظل دائماً متعلقاً بالضرب الذاتي، بينما يستأثر النثر منذ نشأته بالجانب الأكبر من الأدب الموضوعي؛ فالشعر لما له من مزايا الموسيقى والخيال أقدر على التعبير عن الوجدانيات، والنثر لما له من مزايا الرحب والدقة والتحرر من قيود الوزن والقافية أقدر على تتبع الوصف لموضوع الإنشاء، والإسهاب في شرح دقيقه وجليله؛ فإذا جمع أديب بين الصناعتين رأيته يندفع اندفاعاً تلقائياً إلى النظم، إذا حفزته ثورة نفسية متدفقة، وينساق بداهة إلى النثر إذا أراد التأمل الهادئ والتوسع في الشرح والاستقصاء؛ على أن هذا ليس بمانع أن يحتوي النثر أحياناً على بدائع من آثار الضرب الذاتي، وأن يشتمل الشعر على لطائف من آثار الضرب الموضوعي
ولما كان الشعر أشبه بالضرب الذاتي من الأدب، والنثر أقرب إلى الموضوعي، كان الشعراء بطبيعتهم أدباء ذاتيين أو أنانيين كما قد يلقبهم بعض المنكرين عليهم، وكان الكتاب أدباء موضوعيين، يتناولون من مجالات القول ما لا يمس أنفسهم وشخصياتهم إلا قليلاً، بينما لا يكاد بعض الشعراء يخوض في غير شؤون نفسه، من طرب وشجن وغضب ورضى وحب وبغض، حتى تلوح دواوين بعضهم كأنها صخب مستمر مزعج، أو بكاء طفل مدلل وضحكه يتتابعان بلا انقطاع، والبكاء أظهرهما جلبة والسخط والنقمة والشكوى أبين أثراً، فإذا فرغ الشاعر من صخبه وثورانه جاء الكاتب من بعده هادئاً وقوراً، بصرف