في شعره نظر الحكيم الخبير، ويحكم على شعره وخلقه وحياته وفهمه للدنيا حكم القاضي المتمكن، فلا يزال الشعراء يلوحون كأنهم فريق من المتهورين الأغرار، ولا يزال النقاد يظهرون في مسرح الراشدين الأكبر منهم سناً وخبرة بالأمور.
ولا يقتصر التفريق على الشعر والنثر في هذا الصدد، بل هناك أشكال من الأدب هي أصلح للذاتي وأخرى هي أوفق للموضوعي: فالقصة والترجمة والتاريخ والملحمة كلها ضروب موضوعية يتحدث فيها المنشئ عن غيره من رجال الحقيقة أو الخيال، ومن أبناء الحاضر أو الماضي، ويدرس حوادث لم يساهم فيها ولم يختص بها، وإن تكن لذاته في كل ذلك آثار تقل أو تكثر، والرسائل الإخوانية والمذكرات، والتراجم الشخصية والاعترافات وما جرى مجراها، كلها أشكال من الأدب ذاتية يخصصها الأديب لتحليل ذاته وعرض صور من حياته، وإن خالط ذلك شتى النظرات الموضوعية، أما المقالة فيتراوح حظها من كل من الضربين.
وكما تفترق أشكال الأدب وتتميز في هذا الصدد، كذلك تفترق وتتميز موضوعاته: فالوصف والمدح والهجاء والحكمة أقرب إلى الضرب الموضوعي من الفخر والحماسة والنسيب والشكوى، أما الرثاء فيجمع إلى وصف خلال المرثي وهو أمر موضوعي، وصف مشاعر الراثي وهي أشياء ذاتية؛ على أن مواضوعات الأدب هذه قلما ترد في أثر الأديب خالصة مستقلاً ذاتيها عن موضوعيها، بل يتمازج الضربان كما أن الأشكال الأدبية كثيراً ما تختلط، فيتصل بالأثر الأدبي الواحد الترجمة بالقصص مثلاً، ويمتزج الوصف بالنسيب، وتبدأ القصة أو القصيدة بوصف منظر وتنتهي بخواطر وجدانية، ومن ثم تمتزج الذاتية والموضوعية في أكثر الآثار الأدبية.
ومن التعسف تفضيل ضرب من الاثنين على الآخر: فللذاتي من آثار الأدب محاسنه، وللموضوعي مزاياه، كما أن الشعر لا يفضل النثر ولا الأخير يرجح الأول، بل لكل فضائله ومواقفه ودواعيه؛ فالعمل الأدبي الذي ترين عليه مسحة الذاتية يروع بحرارته وإخلاصه وصراحته، ويشوق بكشفه عن نفس صاحبه وتحديده لشخصيته، كما تحد خطوط المصور شكل الصورة وجوانبها، ويروع بقدرة صاحبه على التأمل في نفسه وتوضيح خلجاتها، والضرب الموضوعي يسر إذ يعكس في صفحة الفن ما نشهد ونحس في عالم