المشاهدة والخبرة ويروع بقدرة الأديب المنشئ على الملاحظة والتقصي والتجرد من أهواء نفسه والتوفر على ما هو بصدده، لكل من الضربين مكانته وروعته ما اتفقت له صفتان: الصدق والعمق.
وكل من الأدبين العربي والإنجليزي حافل بآثار الذاتية والموضوعية في مختلف نواحيه) ترين هذه أو تلك على بعض آثاره أو تغلب على أدبائه، أو تظهر في بعض عصوره، أو تتجلى في أشكال منه وموضوعات دون أخرى، بيد أنه لاختلاف تاريخي الأمتين واختلاف ظهورهما في عصر الحضارة والثقافة، يحتل الطور الذي كان الأدب فيه ذاتياً عهداً مهماً من عهود تاريخ الأدب العربي قبل أن يظهر الضرب الموضوعي ويشيع في الأدب، على حين لم يتخلف في الأدب الإنجليزي من ذلك العهد شيء ذو بال، وإنما يبدأ تاريخ الأدب الإنجليزي الحديث من عهد اليزابث، والضربان الذاتي والموضوعي فرسا رهان في حلبته، بل كاد الضرب الموضوعي أن يستأثر بالصدارة في ذلك العصر.
ففي عهد الجاهلية وحقبة من الإسلام كان الأدب العربي - إذا استثني القرآن الكريم والحديث الشريف - أغلبه ذاتي الصبغة، وكان للشعر فيه المكانة العليا، وكان الشعراء دائبين يبدأون القول ويعيدونه فيما خالج أنفسهم من خواطر، أو مس حياتهم من قريب من حوادث، فامتلأ قصيدهم بالحماسة والنسيب والمنافرة والمهاجاة والفخر والتمدح بكريم السجايا، فلما توطدت الحضارة وشاعت الثقافة اتسعت جوانب الشعر وتعددت مجالاته، وظهر بجانبه النثر الفني، وتناول كلاهما موضوعي الشؤون بجانب ذاتيها، فكان من الفنون التي جدت في الشعر أو توسعت فيه الوصف المسهب والمدح المطنب، وتناول النثر رسائل الأمراء، كما جال الجاحظ والبديع وغيرهما في نواحي الحياة ومذاهب التفكير وأحوال الماضي وخصائص الأحياء وأخبار الأمم ووجوه النقد الأدبي، فغزرت في الأدب العربي منظومه ومنثوره في هذا الطور آثار الذاتية والموضوعية. يتحدث المتنبي مثلاً عن عظمته وفتوته ومطامحه وأشجانه، فيجيء شعره ذاتياً صادقاً رائعاً، ويمدح سيف الدولة أو سواه ويصف مآثره ومواقعه فيميل إلى الموضوعية؛ والأرجح أن الموضوعية كانت أظهر في هذا العصر، لرواج ضربين من القول موضوعيين عج بهما الأدب: عج الشعر بمدح الأمراء، وعج النثر برسائل الدواوين.