على غير عادته، ويتبسط معنا في الحديث على غير شيمته، ويشاركنا اللهو على خلاف طبعه. واستولت علينا الدهشة والذهول أن رأيناه متهللاً، وقد انبسطت أسارير وجهه، وانفرجت شفتاه عن ابتسامة رقيقة، وزادت عنه سمات التجهم والعبوس. وعهدنا به أن ينزوي في ناحية لا يأنس إلا للوحدة، ولا يلوذ إلا بالصمت. ماذا جرى؟ لقد جاء رسول من عند أبيه يحمل إليه - لأول مرة في حياته - ألواناً من الطعام ومبلغاً من المال. لقد كان الطعام تافهاً والمال ضئيلاً، ولكنهما أزاحا عنه كابوس الهم والأسى حين أحس فيهما معاني جياشة من عطف أبيه وحنانه.
وفزعنا نحن عن طعامه مثلما كان يفزع عن طعامنا، وعجز عن أن يثنينا عن عزمنا، فراح يأكل بقدر ويدخر من طعام اليوم لمائدة الغد، والطعام يكفيه أياماً.
ما لي أهب اليوم من نومي مضطرب الأعصاب مقلقل الخاطر مفزع الوجدان كأني أنتظر حادثة أو أتوقع أمراً. لقد ظللت طول يومي أحس في نفسي خيفة وفي قلبي ذعراً، رغم أن هذا اليوم من أيام الربيع الجميلة الهادئة. وكان قد مضى ثلاثة أيام منذ أن استقبل الشيخ حسن رسالة أبيه التي أزاحت عنه خواطره السود، فعجب وهو في مرحه ونشوته أن يراني ساهماً مقطب الجبين مشغول البال، فجلس إلي يريد أن يصل إلى قرارة نفسي ليستل منها أشجانها فما ظفر إلا بالخيبة والإخفاق. وانطلقت أنا إلى الأزهر أريد أن أتحلل من أعباء نفسي وألقي ثقل همي هناك بين رفاقي وأصحابي. وعند الأصيل جاء الشيخ حامد يندفع نحوي وعلى وجهه سمات الفزع والرعب وعلى حركاته علامات الخوف والاضطراب. وحين رآني تشبث بي يجرني وهو يردد في ذهول (تعال، تعال! الشيخ حسن، الشيخ حسن!) فطرت معه إلى الحجرة، إلى حيث أرى الشيخ حسن يتلوى من الآلام وجبينه يرفض عرقاً، وهو صامت لا ينطق بكلمة، ولا يفصح عن شكاه ولا يرسل صيحة. لقد كان جلداً صبوراً حتى حين سرى السم في عروقه من أثر الطعام الذي أزاح عنه الغمة فحفظه في صندوقه وفي قلبه أياماً حتى فسد وتسمم. وأنسرب الرعب في نفسي من أثر ما رأيت فأنعقد لساني وشلت حركتي، فجلست إلى جانبه أنظر ثم ألقيت بنفسي عليه. . . ألقيت بنفسي عليه وهو يلفظ أخر أنفاسه ثم اندفعت أبكيه، أبكي فيه الصداقة الصافية والشجاعة الكاملة والرجولة الباكرة وهو ما يزل في سن الصبا.