للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إن القوم لم يصفوا من أبي الطيب إلا فاضلاً، ولم يشهروا بالتقريظ منه خاملاً، بل فضلوا شاعراً مجيداً، وبليغاً سديداً، ليس شعره بالصعب المتكلف، ولا اللين المستضعف، بل هو بين الرقة والجزالة، وفوق التقصير ودون الإطالة؛ كثير الفصول، قليل الفضول. لكنه بعد هذا لا يستحق التقديم على من هو أقدم منه عصراً، وأحسن شعراً، كأبي تمام والبحتري وأشباههما، فإني لا أزال أرى من منتحلي الآداب من يعارض شعريهما بشعره، ويزن قدريهما بقدره، من غير انتقاء للشعر استعمل فيه كد فكره، ولا استقصاء نظره، وإنما قلد الخطوة الرافعة، والشهرة الذائعة، والنفوس مولعة بالاستبدال والنقل، لهجة بالاستطراف والملل، ولكل جديد لذة، فلما كان شعره أجد فيهم عهداً، كانوا له أشد ودا. وهبنا أغضينا لهم عن تفضيلهم إياه على من لا يشق غباره، ولا يعشر مقداره، مع علمنا في ذلك أن مذهبهم أوضح فساداً من أن نطلب لهم المعارضة، أو نتكلف من أجلهم المناقضة، فكيف بالإغضاء عن نقيهم عنه ما لا يسلم منه بدوي أو حضري، جاهلي أو إسلامي، من استعارة الألفاظ النادرة، أو الأمثال السائرة. وإذا كانت مستعملة في أشعار جميع الناظمين من القدماء والمحدثين. وسلمنا لهم نفيهم عن أبي الطيب ذلك كنا قد سلمنا لهم أنه أفضل أهل الشعر في كل أوان وعصر. وهذه دعوى لا بد من كشف أسرارها وإظهارها، وهي بالعناية أولى من الأولى، لأن تلك دعوى خصت طائفة، وهذه تعم جميع القائلين من الأولين والآخرين. ولقد ادعى قائلها إفكاً واسعاً، وظل للحق فيها دافعاً؛ لأنه أدعى وقوع جميع الشعراء فيما سلم أبو الطيب منه، وفقرهم إلى ما غنى عنه، وهذه صفة تتجاوز الصفات، وتكاد تشبه المعجزات. ولو علم صدقها أبو الطيب من نفسه لجعلها آية له عند تنبيه، ودلالة على صحة ما ادعاه من تنويه، يتحدى بها أهل دعوته.

(البقية في العدد القادم)

السيد أحمد صقر

<<  <  ج:
ص:  >  >>