للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من الأسى واللوعة والحزن، حينما يرى ذلك النخيل وأشجار الدوم الذي كان في يوم من الأيام مورد ثروة وغنى لهؤلاء النوبيين، ومظهر فخار ويسار، يراه وقد تبدل الحال وتغير، فإذا به رمز الفقر والبؤس، تترقرق الدموع في عيون أصحابه كلما يرونه على هذه الحال، غريقاً في النيل، لا يبدو منه سوى رؤوسه الخضر التي أخذت هي الأخرى في الذبول والانقراض بتوالي الأيام، وكأنما هو عالم من البشر والعمالقة يبعث بآخر أنفاسه من جراء طوفان أليم. .

لقد كان إيراد النخلة الواحدة عشرة جنيهات على الأقل، فمن كان يملك عشر نخلات أو عشرين نخلة يحيا حياة سعيدة منعمة، كلها اليسر والرخاء. أما الآن فقد نقص ثمار النخلة إلى حد كبير، ولم تعد تغل أكثر من عُشر ما كانت تغله قبل أن تغمرها مياه الخزن، هذا فضلا عن النخيل الذي يتساقط على الدوام عاماً بعد عام. أما قبل التعلية الثانية، فكان عدد النخل وأشجار الدوم يتزايد يوماً بعد يوم، وثمره يحلو ويكثر عاماً بعد عام، وعناية الأهلين به تعظم كلما زاد دخلهم منه، وتحقق أملهم فيه. .!!

ولا زلت أذكر تلك الثورات الصاخبة الطاهرة، التي كانت تنبعث من قلوب تلاميذي في الفصل، وتهتف بها حناجرهم، وتبدو مغيظة مُدَمرة حينما كنت أتحدث معهم في موضوع إنشائي، يتناول سد أسوان، منافعه وآثاره. .!

منافعه وآثاره؟! إنه لا منفعة له ولا فائدة فيه. .

هكذا كانت عقيدة التلاميذ، وهكذا كانوا تعلنون هذه العقيدة على الرغم من حديثي الطويل معهم، ومناقشتي لهم، وشرحي لعناصر الموضوع. . إن واحداً منهم لا يؤمن بهذا السد ولا يعترف به، ولا يعتقد أنه أدى مصلحة ما إلى القطر عظمت أم حقرت، بل على العكس من ذلك يجب أن يكون الموضوع، وتعرض القضية. . .

لقد عذرتهم حينذاك، لأن كل واحد منهم، لا يرى سوى أثره في بلاده، وخطره عليها، وأضراره الماحقة بها، وأنه حرمهم اللقمة السائغة، والنبتة الناضرة، والدوحة الباسقة، والثمرة اليانعة، والخير الوفير. . وطاردتهم المياه المحجوزة أمامه في عنف وقسوة وجبروت، وأخرجتهم من دورهم، وهدمتها هدماً، وطمست معالمها طمساً، وظلت تطاردهم في إلحاح، حتى جعلتهم يسكنون قنن الجبال، وذري الهضاب حيث الصخر الصلد لا تؤثر

<<  <  ج:
ص:  >  >>