لا. لا أحب أن أعود إلى هذا الحاضر فدعوني استمتع بأذكار ماضي كما يستمتع المنقطع في البادية بما بقي في سفرته من زاد المدينة التي خرج منها وأضاع طريق العودة إليها. إني أبصر كل ما حولي قد تغير فأنكره وأحس كأني صرت غريبا في وطني، ولقد كنت أنا وأخي أنور العطار لا نزال نحن إلى الوطن ونراه في صفحة البدر عند المطار، وفي صفحة دجلة على الجسر. فتسيل قلوبنا رقة وشوقا، ونحن في بغداد بلدنا وبلد اخوة لنا أعزة كرام. وطريق الشام مفتوح، فكيف بمن صار يحس أن وطنه قد طواه الزمان، واختبأ وراء السنين ولم يبق إليه من سبيل؟
فيا أيتها المدرسة - خبرينا لماذا لا نستطيع أن نعود أدراجنا في طريق الزمان - كما نملك أن نرجع في طرق الأرض؟ لماذا لا نقدر أن نقف في الفترة السعيدة من أعمارنا، كما يقف المسافر في البقعة الجميلة إذا جاز بها؟
إذن لعدت أدراجي فلصرت العمر كله تلميذاً فيك، أستمتع بجوار ذلك الشيخ النوراني، وأعيش في جو أنيس من نصائحه ومواعظه وقصصه، وأبقى أبداً ذلك الطفل الذي لا يدري ما الشر، هذا ما تمنيت أن أكونه وهيهات أن تتحقق الأماني الكواذب!
أني كلما رأيت هذه المدرسة خالية خاوية خربة لا يحفل بها أحد، ولا يذكر شيخها إنسان، أيقنت أن الجحود سجية في هؤلاء الناس. أتنسى دمشق شيخها ومعلمها الذي أحسن إليها؟ إن هذا الشيخ إن لم يكن عالما مؤلفا، ولا سياسيا حاكما، ولا فيلسوفا مفكرا، فلقد بنى في نهضة دمشق ركنا لم يبن أضخم منه عالم ولا حاكم ولا فيلسوف. لقد كان معلم أولاد ولكن أولاده صاروا قادة هذا البلد. لقد أنشأ مدرسة منظمة يوم لم يكن في دمشق إلا الكتاتيب. لقد كان مربيا بالفطرة لم يقرأ بستالوسي، ولا تعلم أصول التدريس ولكنه كان أحسن مرب رأيته. . .
. . . فيا أيها القراء لا تقولوا، ومن الشيخ عيد السفرجلاني، وماله يملأ صفحات الرسالة بأخبار نكرة في الرجال. . . فكم في ظلام النسيان من عظماء حقا، وكم في ضياء الشهرة من أصنام قائمة نظنها ناسا، وهي مبنية من جامد الصخر، أو بارد النحاس!