يجب أن نبحث عن أصول التصوف الإسلامي في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كما نبحث عنها في الصوامع الهندية والبيع اليهودية والكنائس المسيحية وتعاليم مدرسة الإسكندرية. غير أنه لا يفوتنا، وهذا أمر ينبغي التنبه إليه، أن الألفاظ والآيات القرآنية مرت بأدوار مختلفة من حيث مدلولها وتفهم الناس لها. فقد يفهم صحابي من لفظة قرآنية ما لا يفهمه تابعي أو رجل من رجال القرن الثالث الهجري. ولسنا في حاجة إلى أن نشير إلى مرونة الألفاظ القرآنية ومسايرتها للزمن والتقدم العلمي. ولو جارينا متصوفي العصور الأخيرة لرددنا كل بحث صوفي إلى آية قرآنية أو حديث نبوي، وهذا إسراف من غير شك. فلا يصح إذن أن نبحث عن أساس التصوف الإسلامي في القرآن وحده أو فيه كما فهمه الصوفية المتأخرون، بل يلزمنا أن ننشد هذا الأساس في الألفاظ والآيات القرآنية كما بدت للمتصوفين الأول. يقول الأستاذ نكلسون:(صواب أن نعد المتصوفة بين خواص دارسي القرآن، ولكن لا يصح، فيما أظن، أن نعتبر التصوف مجرد نتيجة للدراسات القرآنية).
وفي هذه الجملة القول الفصل والحكم السديد في تلك الخصومة الآنفة الذكر التي شجرت بين المستشرقين. فأنا لا نسلم بأبعاد القرآن رأساً عن النظريات الصوفية، كما لا نوافق على عده وحده كفيلاً بخلق تصوف كامل. ولا يفوتنا أن نشير أخيراً إلى أن هذه المعركة فقدت اليوم كثيراً من أهميتها.
بدأ التصوف فعلاً على صورته الفطرية البسيطة منذ الصدر الأول للإسلام، فلوحظ على كثير من الصحابة ميلهم إلى الزهد والتقشف وإعراضهم عن الدنيا، بل لقد خطا بعضهم في هذه السبيل خطوات فسيحة وبالغ فيها مبالغة واضحة. بيد أن هؤلاء الزهاد والمتقشفين لم يتسموا باسم خاص ولم ينتسبوا إلى طائفة معينة، ولم تطلق كلمة (صوفية) على جماعة محددة إلا في أواخر القرن الثاني للهجرة. وما زال هذا النوع من السلوك ينمو ويزيد أنصاره إلى أن ولد بعض الأبحاث والنظريات، والعلم نتيجة العمل، والنظرية في الغالب وليدة التطبيق. لهذا رأينا رجالاً من مفكري القرن الثالث الهجري، وعلى رأسهم المحاسبي وذو النون المصري، يبدءون بوصف بعض الأحوال النفسية والظواهر الصوفية، ومخلفاتهم من أقدم ما كتب في هذا الباب. ونظرية الاتحاد بوجه خاص ترجع إلى عهد