يقوم عندي مقام (الدوش) في أيامنا هذه. . . فقد كان الماء يحمل إلى البيوت في القرب على ظهور السقائين لا في الأنابيب كما هو الحال اليوم. . . ثم أصعد إلى المسكن فأفطر وأتناول كتاباً وأقرأ حتى يدنو موعد المدرسة فألبس ثيابي بسرعة. . . في دقيقة واحدة بلا مبالغة، وما زلت الآن قادراً على ارتداء الثياب في مثل هذا الوقت القصير. . . أي في دقيقة. . . وأحسب إني لو عملت في فرقة تمثيلية لأدهشت المتفرجين بسرعة اللبس. . . ما علينا. . . إنما ذكرت هذا لأني رأيت كثيرين يضيعون ساعات في ارتداء الثياب: يقفون أمام المرايا ويتأملون أنفسهم في صقالها من الخلف والأمام ومن اليمين والشمال كأنهم سيعرضون في مسابقة للجمال، أو كان أهم عمل للإنسان في هذه الحياة هو أناقة الملبس وحسن البزة وجمال الهندام. إذا مالت ربطة الرقبة نصف ملليمتر كان هذا عيباً فظيعاً؛ وإذا كانت هناك ذرة واحدة من التراب على نعل الحذاء خربت الدنيا وقامت القيامة في البيت على الخادمة المهملة. ما علينا كما قلت. ثم أذهب أجري إلى المدرسة أجري بالمعنى الحرفي لأني كنت أقرأ فلم أجعل بالي إلى الوقت وموعد المدرسة. وما أكثر ما كنت أجري وفي يدي ربطة الرقبة فلا يتيسر لي أن أضعها حول رقبتي إلا في الصف أو في المكتب. ولو تخلفت عن المدرسة لما كان في ذلك بأس ولا منه ضير، فقد كنت أنا ولي أمر نفسي، ولكنا نحب المدرسة وكانت لنا رغبة في التعلم. وينقضي اليوم المدرسي فنكر راجعين إلى بيوتنا ثم نخرج للرياضة والنزهة والترويح عن النفس ساعة أو ساعتين
وأذكر لكم شيئا. . كنا ثلاثة أو أربعة لا نكاد نفترق. ولم نكن في مدرسة واحدة ولكنا كنا نلتقي بعد المدرسة في بيت أحدنا ومعنا كتبنا أو بعضها فنتبادل الدروس التي تلقيناها في يومنا، ثم نمضي إلى قصر النيل أو غيره - على أرجلنا - فإذا كان اليوم خميس ركبنا زورقاً على النيل وكان أبو أحدنا رجلاً فيه شذوذ، فكان يتفق أن يجيء إلى بيتي يقف في الفناء الرحيب تحت الجميزة ويصفق، حتى إذا شعر أن أحداً أطل من النوافذ العليا كف عن التصفيق وانطلق يصيح:(يا أهل عبد القادر. . حوشوا أبنكم عن أبني. . أفسد أخلاقه وعلمه السهر إلى الساعة اثنين) فيخيل لمن يسمعه يصيح إننا نسهر إلى الساعة الثانية صباحا أي بعد منتصف الليل، ولكنه كان يعني لا ساعة الثانية بالحساب العربي: أي العشاء أو بعد ذلك بقليل. . .)