السماء والأرض؛ وكأنما طوى الزمان، وزُويت الأرض، واجتمعت الإنسانية، وحشر البرّ والحق وكل خلق طيب في هذا الضريح. يا لك بقعة كالكوكب المضيء تناله الأعين في لمحة وتحيط أشعته بالعوالم العظيمة! يا لك بقعة كمنبع النهر العظيم، متدفق بالحياة فياض بالبركة مدّاد بالخير يحيي الأجيال بعد الأجيال.
يا حيرة الوصف، وعجمة البيان! أهي عنوان كتاب انطوى على الحق والصدق، والخير والبرّ، والإحسان والمرحمة، يقرؤه القارئ جملة ثم لا يزال تروعه منه الصفحة بعد الصفحة؟ أم هي تاريخ لا يزال الدهر يكتب صفحاته وإنما أوله وحي الله وآخره غيب الله؟
أترى هؤلاء المصلين لا يفترون، وهؤلاء المرتلين القرآن لا يصمتون، وهؤلاء الداعين لا ينقطعون، أتسمع هذا الآذان وهذا السلام وما يحدث به المسلم أخاه، وما يفضي به في علانيته ونجواه؟ ليس فيما ترى إلا أناسيّ هداهم محمد، وأفعال علّمها محمد، وكلمات أملاها محمد، بل كل صوت يرتفع إلى الله في أقطار الإسلام، وكل عبارة في وضح النهار أو جنح الظلام، وكل لسان يدعو إلى الخير وكل يد تمتد بالبر، وكل كلمة حق ودعوة صدق، وكل نية محمودة وسعي مشكور، فهنا منبعه، ومن هذه البقعة وحيه؛ بل كل نزعة في المسلمين إلى سؤدد، وكل طموح إلى علاء وكل سلطان فيهم قائم بالحق، وكل شرع نافذ بالعدل، وكل دعوة إلى حرية وثورة على ظلم، وانتصار للحق، وتمرد على الباطل - كل أولئك شعاع من هذا النور، أو قطرة من هذا الينبوع
ولست تتمثل هنا مجداً ولا سلطاناً ولا سؤدداً ولا علواً إلا تمثلته تواضعاً للحق، وبراً بالخلق، ورأيته سؤدد المساكين وسلطان المستضعفين. السلطان الذي يجمع الناس على شريعة من العدل والمرحمة والمودة والسلام.
موقف يتضاءل في جلاله كل جلال، ويصفو في جماله كل جمال. لمحات تطهر فيها النفس من أرجاسها، وتبرأ من أهوائها، وتسمو على شهواتها، وتخلص من أغلالها، فتستمد الخير والحق والعلاء والتقوى والحب والسلام وتَسَع السماء والأرض وكأنما تخلق خلقاً جديداً وتفتح في أعمالها صفحات جديدة. خسر من لم يطهره هذا الموقف، وخاب من لم ترفع نفسه هذه الساعة. هنا النفس المطهرة. هنا محمد بن عبد الله. هنا رسول الله. هنا خاتم النبيين. ثم هنا اثنان من صحبه وخلفائه: أبو بكر وعمر.