للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولكن رمضاننا الأول واأسفاه لم يخفَّ على طبع المدينة الحديثة! فرمته بقلة الإنتاج وكثرة الإهلاك وشل الحركة وقتل الصحة، ونفته إلى إحياء العمال وقرى الفلاحين، واتخذت لنفسها من بقاياه رمضان آخر رقيق الدين، خفيف الظل، باريسي الشمائل، يبيح النظرة المريبة والكلمة العارية والأكلة الدسمة والسيجار الغليظ، ولا يسألهم من ظرفه إلا إن يجعلوا العشاء عند الغروب وبعد طلقة المدفع! وإذا كان في بيوت المحافظين قارئ يقرأ القرآن، وذاكر يذكر الله، فليكن في بيوت المتجددين (راديو) يرجِّع أصوات الغناء، وحاك يردد أهازيج الرقص!

وهكذا تُجِدُّ الليالي ونحن نلعب! كأنما كتب علينا أن نأخذ الحياة من جانبها الفضولي العابث فنتأثر بها ولا نؤثر فيها، وكأنما همنا ان نعيش صعاليك على تقاليد الامم دون أن تميزنا خصيصة من قومية، ولا شعيرة من عقيدة! وكأنما الشعائر التلمودية القاسية عاقت اليهود عن المغامرة والنبوغ والتقدم!

أما رمضان القرية فلا يزال يحل من أهلها محل النور من العين والمهجة من القلب! تجسمت في خواطرهم صورته حتى جعلوه رجلا له حياته وعمره وأجله. . يذكرونه على شهرين من مقدمه. فيحسبون حسابه! ويهيئون أسبابه، حتى إذا دب إليهم من غيوب الآباد دبيب الهرم سُلسِلت الشياطين، وأُرسِلت الأملاك. وهبطت الأرواح، ودرَّت أخلاف الخير، واغدودقت أصول النعم! هنالك يملك القرية شعور تقي هادئ خاشع، فلا تعود تسمع لغواً في حديث، ولا عنفاً في جدل، ولا بغيا في خصومة! فإذا أذهل أحدهم الغضب فرفع صوته ندم عجلان واستغفر ثم قال: اللهم إني صائم! ذلك لأن رمضان يُرجع الفلاح نقيا كقطرة المُزن، طاهراً كفطرة الوليد، فلا يقتل ولا يسرق ولا يشهد الزور ولا يقول الهُجر ولا يأتي المنكر. وما أجمل أن ترى فاتك الأمس ناسك اليوم! يمشي من البيت إلى المسجد في ثوبه النظيف وئيد الخطو، غضيض الطرف، ولا تترك المسبحة يده، ولا يفتر عن التسبيح لسانه، فإذا قابل القروية الجميلة وعلى رأسها الجرة، اتحد جمالها في نظره، بجمال الخير في نفسه، فأمعن في التسبيح واستغرق في الله، لأن إبليس في رمضان سجين، وباب الغواية مغلق!

يقضون صدر النهار في تصريف أمور العيش، ثم يجلسون على المصاطب في أشعة

<<  <  ج:
ص:  >  >>