والمجون الطريف، فلا يحيد عنهما إلى المدح إلا في ظروف خاصة تفرضها المحاباة، وتقتضيها الطاعة في عصر تطلع فيه الأمراء إلى المدح والإطراء. وكانت حياة اللهو والمرح قد غمرت مطيعاً بمباهجها الفاتنة، فاصطحب الخلعاء، ونادم الظرفاء، وتحفز إلى أسراب الكعاب يسارقهن البسمات، ويخالسهن الصبوات، غير أن الدهر لم يفلته من كيده، فقد أوقعه في غرام جارية فاتنة تحت يده، فملكت عليه فؤاده، وتخطفت أزمة رشاده، ثم حزبه الحطب الملم، فاضطر إلى بيعها اضطراراً، وهام في الآفاق على وجهه فقذفت به النوى إلى حلوان، ثم برح به الشوق إلى حسنائه، واشتعل الحنين في أحشائه فنظر فيما حوله ذات اليمين وذات الشمال فرأى عن كثب نخلتين متجاورتين ترتفعان في الأفق إلى مدى شاهق، وقد هبت بهما رياح منعشة، فرنحت عطفيهما، وحاولت أن تضمها ضماً يبرد الغلة وينقع الشوق، فاشتبكت فروعهما السامقة في أجواز الفضاء وقتاً غير قصير!
منظر عاطفي أخاذ، عصف بالشاعر عصفاً عنيفاً، فتذكر ملاعب الصبوات، وعهود المسرات، وحسد النبات على التئام شمله، واكتمال صفائه، وكأنه تصور للنخلتين آذاناً تسمع، وعقولاً تفهم، فأخذ يحدثهما بضربات الدهر، وفتكات الأيام، ثم استشهد بنفسه على صحة ما ادعاه، فذكر جاريته الحسناء، وكيف كانت تذهب شجونه وتسري همه، غير أن الزمان لا يبقى على أنس، فاستل روحه من جسمه، ووقف له بالمرصاد أنى سار وهو لا بد سيقف للنخلتين موقفه منه، فتبدلان وحشة بعد أنس، وتناءيا غب لقاء. وهكذا يتشاءم الشاعر تشاؤماً يرفه عن خاطره، ويبرد من لوعته، وفي النفوس من يلحقها الألم الممض فتشعل من الغيظ اشتعالاً، حتى إذا لحق بغيرها من الأشياء سرى عنها بعض الشيء وأخذت تبصر وتتأسى بالمصاب الجديد. ولقد علل مطيع نفسه بما سيلحق النخلتين - قبل وقوعه - فبردت جوانحه وطفق يصف شجونه المتحاربة، إذ يقول:
أسعداني يا نخلتي حلوان ... وابكيا لي من ريب هذا الزمان
أسعداني وأيقنا أن نخساً ... سوف يأتيكما فتفترقان
ولعمري لو ذقتما ألم الفر ... قة أبكاكما الذي أبكاني
كم رمتني صروف هذي الليالي ... بفراق الأحباب والخلان