للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وبرغمي أن أصبحت لا تراها العين مني وأصبحت لا تراني وإذن، فقد روح الشاعر عن نفسه، وأزل بوعيده المنكود، ونحسه الأشأم بعض ما يغاديه من الوساوس. وكأن النخلتين قوة أصاختا لشعره فأسعدتاه بما يريد، أو هكذا تخيل ذلك، فخف إلى بغداد بارد الصدر، وقابل صديقه حماداً فأسمعه ما قال في النخلتين من الشعر، وعبر عن سروره بما تخيله من الإسعاد والعون. وتمضي الأيام في سيرها الرتيب فتميل على قوم بالرفاهية والأمن، وتلهب آخرين بسياطها الملتهبة، فتصهر الأفئدة، وتحرق الجلود، ومنهم حماد صاحب مطيع، فقد ثارت به عاصفة هوجاء كادت تطيح بحياته، فتذكر شعر صاحبه، وخف إلى سدرتين مائلتين بقصر شيرين، وهو يظن كل الظن أنهما ستسعدانه، وستمثلانه دور النخلتين أصدق تمثيل. وينظر حماد إلى السدرتين الشاخصتين فلا يحس براحة، فينقلب إلى منزله ساخطاً ناقماً، ويجمجم بحروف حزينة تألف منها هذان البيتان:

جعل الله سدرتي قصر شير ... ين فداء لنخلتي حلوان

جئت مستسعداً فلم تسعداني ... ومطيع بكت له النخلتان!

والواقع أن مطيعاً رغم تحامله على القرينتين الآمنتين، قد أسدى إليهما يداً بيضاء، فقد نبه من خمولهما المستكين، وذاع شعره في الناس فأخلصهما من أزمتين حادثين، فقد مر الخليفة الباطش أبو جعفر المنصور بالعقبة ذات يوم فوجدهما تزحمان الطريق، وتعوقان القوافل المحتشدة عن المسير بضع ساعات، فأمر باستئصالهما في غير هوادة؛ ولكن أبيات مطيع ترن في أذنيه، ويتقدم إليه أحد أعوانه فيقول في تضرع ذيل: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون النحس الأشأم الذي عناه مطيع في قوله:

أسعداني وأيقنا أن نحساً ... سوف يأتيكما فتفترقان!

فيتراجع المنصور الجبار عن قصده، ويخشى أن يزيل النخلتين فيتناقل الناس أنه النحس الأشأم ثم يستعيد الأبيات فيثني عليها في لباقة ويهش لذكرى مطيع، فيخصه بجانب من الإطراء، وذلك ظفر عظيم للنخلتين، وكسب هائل لشاعر مستكين.

وسيعجب القارئ حين يعلم أن خليفة جباراً كالمنصور يرتاح إلى ما جن خليع كمطيع!! مع أنه فوق سيرته الداعرة قد صاحب الخلفاء الأمويين، وغرق في لحج متراكبة من نوالهم الجزيل، مما يهيج عليه أبا جعفر، بل يوجب أن يلتمس من جنونه العابث مقتلاً يرديه،

<<  <  ج:
ص:  >  >>