فيمحق نديم أعدائه ونجي خصومه، ولكن القدر قد هيأ للشاعر فرصة مكنته من التزلف للمنصور، فاستل سخائم صدره، وبدد غياهب مقته؛ فقد اختفى الشاعر حقبة طويلة في مطلع العهد العباسي، حتى إذا علم بما اعتزم عليه المنصور من مبايعة ولده المهدي بالخلافة، كشف عن نفسه اللثام، ودلف إلى الحفل الحاشد في جرأة عجيبة، ثم صاح في الناس بأضخم صوت وأعلاه، فروي عن أناس من المحدثين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قال: (المهدي منا محمد بن عبد الله، وأمة ليست عربية) والجمهور في كل زمان ومكان كالأطفال يؤمن بالترهات ويدين بالأباطيل، فصفق للراوي والآفك، وصدق ما قال بدون تمحيص، ولم يخف على أبي جعفر افتراء مطيع، ولكنه وجد لكلامه ثمرة نافعة، فغمره بعطفه وأمنه على نفسه، فقر القلب الواجب، ونام الطرف الساهد، وأنس الهائم الشريد.
ولقد مات أبو جعفر، وقام بالأمر من بعده ولده المهدي، وكان ذا شغف بالرحلات المتنوعة، فوصفت له عقبة حلوان، فأصدر أمره بالمسير إليها، فأخذت زينتها ولبست من التنميق حلة زاهية، وبالغ العمال والصناع في زخرفة المكان زخرفة تليق بالزائر العظيم، ثم حانت ساعة القدوم، فحضر الخليفة في ملأ من سماره وندمائه، وامتد بساط الأنس فصدحت المزاهر وعزفت القيان، وكان في المغنيات جارية أديبة تدعى (حسنة) فجالت ببصرها في العقبة فرأت عن كثب نخلتي حلوان، وقد بقيتا على العهد متجاورتين متصافيتين فما جاء دورها في الغناء حتى انطلقت تصدح بقول ابن أبي ربيعة:
أيا نخلتي وادي بوابة حبذا ... إذا نام حراس النخيل جناكما
ودار الخليفة ببصره فرأى نخلتي حلوان، فعلم أن جاريته تعنيهما من طرف خفي، فأراد أن ينغص عليها صفاء الحفل فقال: لقد خطر لي أن أقطع النخلتين فهما تزحمان الطريق، فصاحت الجارية كالمشدوهة (أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون النحس الأشأم الذي تنبأ به مطيع) فتبسم في عجب وقال لمغنيته الجميلة: أحسنت في رأيك، والله لا أقطعهما ما حييت، ولأوكلن بهما من يتعهدهما بالسقيا والإنعاش. ثم عين لهما ساقياً مخلصاً، فما زال موكلاً بهما حتى مات أمير المؤمنين!! وانتهت الأزمة بسلام. ولكن أي شيء يبقى على الأيام؟! لقد عصف الدهر بأطواد شامخة رسخت أصولها في باطن الأرض وناطحت قمتها