الجوزاء، فهل يبقى على نخلتي حلوان؟ كلا! فقد فاجأهما النحس المشئوم على يد الرشيد؛ حيث هاج به الدم مرة في حلوان فأشار عليه طبيبه أن يأكل جمار نخلة فارعة، فبحث أعوانه لدى الدهاقين فما تيسر لهم الدواء، ففزعوا إلى إحدى النخلتين فقطعوها في عجلة وأتوا بالدواء للرشيد. ومر الخليفة بالنخلة الباقية في إحدى روحاته فتذكر بيت مطيع، ووقف في مكانه واجماً ساهماً، كمن ارتكب محظوراً خطيراً لا يمكن تلافيه، ثم قال في حسرة كظيمة: عزيز علي أن أكون النحس المفرق، ولوددت أني لم أذق الدواء ولو قتلني الدم بحلوان.
واهاً لمطيع!! لقد جعل الرشيد يتحسر على استئصال نخلة حقيرة، وكأنه قتل - بدون جرم - إنساناً ينبض بالحركة، ويجيش بالحياة، كما أتاح للنخلتين حديثاً يروي مدى الأحقاب، وجعل منهما مادة دسمة للشعراء، فنظم أحمد بن إبراهيم الكاتب في رثائهما أبياتاً دامعة، وارتفع بهما شاعر آخر إلى مرتبة عالية؛ فوازن بينهما وبين عاذلين من بني الإنسان، والتمس لهما العذر في رفق ملموس. فهل كان يدري مطيع حين نظم أبياته أي قصة عجيبة مثل فيها الفصل الأول وختم الرشيد فصلها الأخير؟ أجل لقد كتب الشاعر لنخلتيه تاريخاً يطالعه القراء كما يطالعون ترجمة عظيم مثل دوره السياسي ثم لقي حتفه فترحم عليه الجميع.
ارحم الغصن لا تنله بسوء ... قد يحس النبات كالإنسان