الحمائم السابحة في صبح الربيع. . قد استطال الفقر في ذيولها، كما استطال الحزن والألم في هياكلها. بقية من جمال يغزوها الهم الناصب، والضنى الملح، في انتقال مفاجئ من حياة إلى حياة، ما أبعد كلا منهما عن الأخرى
هذه المدللة التي أكرمها الفلاح، وأقامها في الحقل (الآمن) تستملي حياة الدعة والسعادة، وتضفي على الحقل ربيعا أجمل من ربيع مروجه، قد أصبحت تعمل في حقل آخر، عمل الأجير لا المالك، ويهولك ما ترى حين ترى أن هذه المدللة التي لم تجاوز العشرين قد أخذت تؤجر في الحقول. . . لم تعد تصغي للموسيقى ولا تغشى محاضرة، ولا تحفل لهذا التاريخ الرابض في معالم باريس، ولكنها في مقاهي سان جرمان مع الغاضبات من الأهل، الساخطات على الحياة، وأخيراً في كهوف الليل الحمراء على ضفة السين. . .
إن لها شخصية كما يدعي صاحبها الذي أطلقها من المرعى (الآمن) فهو لا يسأل - ولا يحب أن يسأل - كيف تعيش؟ وهي (الحضرية) المدللة التي ما عرفت العمل، وما خلقت إلا لتضفي النور على ما حولها. . . إنها شخصية تمنحها إياها الحضارة في تمام العشرين، وقد نسيت الحضارة أن الزهرة هي الزهرة، في أول الربيع، وفي عنفوانه، وفي نهايته، وأن الطبيعة عرفت هذا فنثرت من حولها الشوك لترهب القلوب الطامحة، وتدفع الأيدي عن جناها. وتمر بك هذه الذابلة التي كنت تسعد بالنظر إليها، فتعاف أن تراها رحمة وإشفاقا، ولكأن هذا العربي قد أرادها في هذه الصورة القوية من شعره
كنت مشغوفا بكم إذ كنتم ... شجراً لا تبلغ الطير ذراها
لا تبيت الليل إلا حولها ... حرس ترشح بالموت ظباها
وإذا مدت إلى أغصانها ... كف جان قطعت دون جناها
فتراخى الأمر حتى أصبحت ... هملا يطمع فيها من يراها
ويح المسيحية وويح الشرق منك يا أوربا! ألا تذكرين حديث (الغنمة الضالة) في الإنجيل؟ ألم يطلب إلى الراعي أن يبحث عنها حتى ولو تعرض القطيع كله للضياع؟ أنه يعلمك كيف تكون القيم الإنسانية عندك خيراً من (المصلحة) وكيف تحرصين على الاستجابة لهواتف الروحية، وإن لم تدع إليها (المنفعة). إن القطيع من غير شك خير من الواحدة، ولكنها الساعة الرحيمة التي تكسر كل مقاييس الموازنة، وتحطم كل موازن المقارنة