للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ثم تقدم الجيش الفرنسي المنصور إلى طريق القاهرة، وسمع طاغيتا الدولة بسيره، فأجمعا أمرهما على أن يسير مراد ليلقاه، فيشتت شمله بصدمة من صدمات فرسانه الشجعان. وخرج من القاهرة منتفخ الأوداج كبراً، ممتلئ النفس إدلالاً وغروراً. وجعل الناس يُسائلون أنفسهم ماذا عساه يفعل، ويأبى هو إلا أن يرد بالازدراء على ذلك التساؤل قائلاً: (سنحطم ذلك الجيش المغير تحت سنابك خيولنا) وسار حتى بلغ شبراخيت أو قريباً منها، وهنالك لاحت له طلائع الجيش الفرنسي. ثم كان الاصطدام، ولطم لطمة خفيفة فلم يصبر عليها، بل هرب فزعاً، واضمحلت كبرياؤه، وذاب إدلاله كما يذوب الثلج في الحر، وأسرع راجعاً إلى العاصمة لعله يأتنس بمن هنالك من جنود زميله إبراهيم، أو ينتصر بمن هنالك من الشعب المصري الذي طالما أوقع به في طغيانه وجبروته. فلما بلغ مصر وقف ببقايا جيشه عند

(انبابه)، وأرسل إلى القاهرة يستنجد ويستمد، فنودي على أهل القاهرة بالنفير والتجهيز للدفاع. وهكذا لم يجد الطاغيتان أخيراً أن لهما غنى عن الشعب، وعلما بعد أن وقعت الواقعة أن الملجأ الأخير إنما يكون إلى هؤلاء العامة، وقد كانا في أيام السلم لا يقيمان لهم وزناً ولا

يفكران فيهم إلا من أجل أموال يبتزانها، أو من أجل كبريائهما يغذيانها، أو من أجل نفسيهما الطاغيتين يشبعان شهوة طغيانهما.

ولكن كان الشعب واحسرتاه قد قتله الطغيان: فأجاب دعوة النفير وجعل يستعد للدفاع، ولكنها إجابة المضني الذي أجهده الضنى، واستعداد النزيف قد خارت قواه من طول ما أريق من دمائه، فما يكاد يعتمد على رجليه حتى يخر إلى الأرض مهدوداً متهالكاً.

أغلق الناس (دكاكينهم) وهجروا أسواقهم، وخرجوا جميعاً إلى بولاق يجمع بعضهم من بعض ما عندهم من المال الضئيل، فأما من عنده فضلة من ماله فقد تطوع بالإنفاق على غيره، وبذل السلاح والطعام لمن يحتاج إليه. وهم في كل ذلك يتلفتون لعلهم يرون هؤلاء الألي كانوا بالأمس يشمخون بأنوفهم عتوا وكبراً، فلا يجدون إلا باحثاً منهم عن أمر نفسه، أو منهمكا في نقل متاعه وأمواله إلى حيث يكون آمناً عليها من النهب أو المصادرة.

وأبصر الناس ذلك فلم يثنهم عن التقدم نحو واجبهم وهم في غير عدة. لا بل ما هو أكثر

<<  <  ج:
ص:  >  >>