من ذلك، قد تقدموا وهم غير أكفاء ولا مدربين في أمور الحرب، إذ طالما قد وقف الطغاة بينهم وبين أداء حق الدفاع عن الوطن، خوفاً منهم أن يجعلوا لهم في أمر بلادهم رأياً، أو في حكم وطنهم شأناً. وتقدم شعب مصر نحو الجهاد الوطني، وأكثرهم أعزل لا علم له بالحرب، ولا بما تستلزمه من جهد أو من دربة. حتى لقد خرج بعضهم بالنبابيت، لا يحسبون ذلك إلا مغنياً عنهم في معمعان ذلك الجهاد.
ووقف الطغاة ينظرون ما صنعت أيديهم، ومع ذلك لم تنفطر قلوبهم أسى مما يشهدون، ولم يبخعوا نفوسهم على آثار ما اجترمت حكومتهم في البلاد. بل ظلوا وهم (حريصون على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم، مختالون في ريشهم، مغترون بجمعهم. محترقون لشأن عدوهم، مرتبكون في رؤيتهم، مغمورون في غفلتهم).
وقدم جيش فرنسا بعد قليل إلى انبابة، فتقدمت إليه جماعة من العسكر ليصدم الجيش المغير مرة أخرى بهجمتها العنيفة. فدفعوا الخيل في صدر الجيش المقبل، ولكن لشد ما عجبوا إذ رأواذلك الجيش، لا يتمزق لصدمتهم، ولا ينصدع من هجمتهم، فعادوا مذعورين، وستة آلاف من الجيش الفرنسي تضرب في اقفائهم، حتى بلغوا متاريس مراد بك، فانضموا إليه وقد دب الرعب في قلوبهم.
سار الجيش الفرنسي المتقدم وراء المنهزمين، وانقسم على أسلوبه وطريقته، ثم دار على نظامه وخطته، فإذا متاريس مراد بك محصورة وسط نيران الجيش الفرنسي، وإذا النار تنصب على المصريين من خلف ومن قدام. وكان فزع، وكانت مذبحة، وما هي إلا ساعة أو أقل من ساعة، حتى انجلى الغبار وارتفع القتام عن حطام الجيش المصري، بعضها ملقى فوق اليابس، وبعضها يتخبط في ماء النهر، وفلول أسارى في أيدي العدو، والنقع الثائر من جهة الجنوب يخفي وراءه الطاغية (مراد)، وهو هارب نحو الجيزة حرصاً على حياته.
وسمع من في الجانب الشرق من النيل بضجة الحرب، ورأوا ما اندلع فيها من لهب، وما تردد فيها من قصف يشبه قصف الرعد، فلم تثبت نفوسهم بما لا عهد لهم به، وإن كانوا حريصين على أن يجاهدوا ويجالدوا، وخانهم الجلد وإن كانت نفوسهم تواقة إلى أن يثبتوا ويصبروا. والذعر متى استولى على النفس، لم يبق فيها محل لثبات ولا لصبر، ولم يترك