ولقد أذكر أنه قابل ولي الأمر الأسبق في يوم من أيام رمضان، فسأله أصائم أنت يا محمد بك؟ فأجاب من فوره (والله ما أكذبش عليك يا أفندينا)! فضحك ملء شدقيه من هذا الجواب.
ثم لقد كان، رحمه الله، شديد العناية بالنظافة في جميع ملابساته، متأنقاً عظيم التأنق في كل شيء، يحب الزهر ويكلف به، ويحسن تأليفه وتصنيفه، ولا يمس إلا أزكى العطر وأغلاه وكان شديد الاحتفال للطعام، مبالغاً في التأنق فيه. ولربما طالع طاهيه المرات العديدة في مطبخه، يتقدم إليه بأن يفعل بهذا اللون كذا وكذا، ويصنع بتلك الصفحة كيت وكيت، وهو بهذا حق خبير. فإذا قُرِّب إليه طعامه اجتمع له اجتماع شهوانٍ يلتذ به أيَّما التذاذ. على أنه مع هذا كان حسن الأكل، يلتزم في تناوله ومضغه وإزلاقه أعلى الآداب.
وكان رجلاً طباً، كأن طول تمرينه في النقد الكتابي قد طبعه على النقد في كل شيء، وأنضج ملكته فيه، فلا تراه يتخذ شيئاً في أي سبب من أسبابه إلا إذا فحص ونقد تخيّر، فما يكاد يخدع على أمر أبداً!
وهو، بعد، يحب النكتة البارعة ويحتفل لها. على أنه إذا وصل المجلس بينه وبين أصحابه ممن حذقوا هذا الفن ويرعوا فيه من أمثال المرحومين السيد محمد البابلي، ومحمد بك رشاد، ومحمد بك رأفت، لم يكن في الغالب هو المنشئ للنكتة والمبتكر لها. ولكنها ما تكاد تسقط من فم غيره حتى يتولاّها بالتخريج والمط والتوليد والتلوين؛ فما ينتهي أحد في ذاك منتهاه.
ومهما يكن من شيء فان هذا الرجل كان من أوسع الناس علماً بطباع المصريين وأخلاقهم وعاداتهم ومداخل أمورهم، على اختلاف طبقاتهم وتفاوت مراتبهم. فإذا تحدث في هذا الباب فحديث المتمكن الخبير. ومما ينبغي أن يذكر له، ويختّم به هذا الحديث، أنه رجل لم يجد الإلحاد ولا الزيغ إلى قلبه السبيل؛ بل لقد كان مؤمناً شديد الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، والحمد لله رب العالمين. فان رأيت منه شيئاً من الانحراف في تخريج مسألة جزئية من مسائل الدين، فأحِل الأمر على مجرد الخطأ في الاجتهاد والتأويل. رحمه الله واسعة، وغفر لنا وله، وأحسن جزائه في دار الجزاء.