للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تشعر أيضاً بأن العيون موجهة إليها من خصاص الشباك فكانت تتخذ كل حيطة وحذر فتقفل نوافذها وترخي السدول عليها حتى تمنع عنها تلك النظرات التي تخافها وتخشاها، ولكن فاتها أن في الفضاء تياراً خفياً ينشر جاذبية العواطف، وينبعث من شعاعه شرارة سرعان ما تكون سبباً في تأجج تلك النيران التي تضيء الحياة بلهيبها. هذه التيارات مخيفة في الواقع لأنه حين اشتعالها تزيد أوار الحب في القلوب البشرية، فتوقظ فيها وسائل الحياة ووسائل الموت دون تفريق بينهما. أما أنا فلا أخفي عنك أنني ارتعدت من هول ذلك التيار، فرميت رأسي إلى الوراء حياء مخافة أن يقع نظر الفتاة علي وأنا أتجسس عليها عن كثب، ومخافة العار والفضيحة ولا سيما وأنا غريب عن البلاد

ففي ارض الحجاز، تلك البلاد التي لا يوجد فيها من الجنس الأوربي غير شخصي الضعيف، مرتدياً تلك الملابس الإفرنجية، والذي تخرج من فمه رطانة لا يفهمها غيره، كنت مضطراً بحكم البيئة التي تربيت فيها أن ابحث وأدقق في كل ما يقع نظري عليه، ولكن بروح أجنبية، فكان شأني شأن اللص الذي يتسلل إلى بيت تحت جنح الظلام، في وقت هجوع سكانه، ثم يخشى أن يقوده سوء الطالع فتصدم رجله قطعة من الأثاث، أو يفتح باباً خلسة، بيد مرتجفة، بل قد تراه يتلفت ذات اليمين وذات اليسار خائفاً وجلاً، فإذا صادف أن شعوره الإجرامي لم ينبض في صدره، فحينذاك يكاد يطير فرحاً لاقتناصه فريسته، وإذا لم يجد وازعاً من ضميره فانه يفخر بانتصاره على ضحيته، ومن الأسف أن هذا الشعور الإجرامي يلازمنا من المهد إلى اللحد، فأمامنا الرجل العادي الذي يهرع إلى فراشه ليلاً على حين نقضيه نحن في مسامرة النجوم، وفي الوقت الذي يعود هو فيه إلى بيته بعد أن يكون قد أكتسب قوته بعرق جبينه فما علينا إلا أن نوجه أنظارنا إلى ألوان الشمس العظيمة ساعة غروبها، ونتعلم منها عن كثب طرق التحول ونعد قبلاتها الحلوة التي تطبعها على سطح الأرض من نعم الطبيعة، أجل يتحتم علينا أن نبحث بدقة وحذر خشية أن نتخبط في ديجور الظلام كما يتخبط اللص في الخفاء

انه لأحساس نبيل لو أتيح للإنسان أن يكون كشجرة الأرز الباسقة، تلك الشجرة المغروسة على أعالي القمم، تنقل عينها من حين إلى آخر على المروج الخضراء والكروم الزمردية، ولكن هذه الشجرة - وهي سيدة الأشجار - ستبقى على الدوام مهددة بميلها للسقوط في

<<  <  ج:
ص:  >  >>