وسط الأدغال، حيث الحركة والحياة بين الحشرات والأزهار وبين القطعان في مراعيها، وحيث الأطفال يضحكون وحيث تستغرق السعادة في سباتها العميق
هذه الأفكار مرت سراعاً بمخيلتي، عندما كنت انظر صفوف نوافذ منازل مكة التي تطل على هذا الوادي الضيق، ثم وقع نظري على المآذن الشامخة وقد فارقتها أشعة الشمس الذهبية، كأنها تناديني أن أقترب منها. وهذه الشمس التي غربت هي بغير نزاع ذلك الصاحب الأمين للأجنبي، فشمس الصباح وشمس الظهيرة بهما قوة واقتدار مثل قوة الشاب العاشق، ولكنها على الدوام واحدة لا تتغير، أي أنها لا لون لها، وتكاد تكون في الغالب وحشية شاحبة ومزعجة. إنها لاشيء سوى القوة الغشوم، فهي كالآلة، بيد أنه ينقصها الإحساس، والصوت والضمير، والشوق. فهذه الشمس التي تغرب، ليست سوى حب الرجل البالغ، فالضمير، والمعرفة، والفرح، والأحزان قد تغلبت عليها مئات المرات، وأخضعتها لسلطانها، وظلت للآن في كفاحها تغالبها، وستظل في هذا الكفاح الدائم راضية بالحياة، ممتزجة مع الموت
هنا سمعت المؤذن يدعو المؤمنين إلى الصلاة، وهنا يجب علينا أن نولي وجوهنا شطر الكعبة المقدسة لنسجد للحي القيوم، مالك الملك، الذي خلقنا فسوانا، وفي قدرته الحياة والموت، صاحب الأمر الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون. فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون، إننا ندعوه ونبتهل إليه في قعودنا وقيامنا، إذا ليس أفضل من الابتهال إلى قدرته، تلك القدرة الدائمة الأبدية، فطوبى لمن يخشون ربهم. نعم طوبى لهم وحسن مآب
خيم الظلام المخيف على جميع أطراف مكة، وفي هذه البقعة الصحراوية الجرداء نرى بيت الله، ذلك البيت العتيق قبلة الشعوب الإسلامية، الذين ينسون حطام الدنيا ومتاعبها ويطئون المادة بأقدامهم ويستعيضون عنها بالأيمان المطلق، وهو لعمري أثمن من كل شيء في الوجود، فيتخلصون من شرور الجسد ويصعدون بأرواحهم إلى أعلى عليين، وما أحلى وأطيب سماعك آذان المغرب في بلاد العرب، أو على الأقل ما وجدت شيئاً أروع منه، خصوصاً وقد قدمت إلى هذه الأرض المقدسة لأتطهر من أدراني وأبغي الثواب والمغفرة، وسيعلم الإنسان عندما تصعد الروح إلى بارئها، وعندما تنهار أعمال الرجال، فأننا بفطرتنا