ذلك برأيه وتقديره، ولا عيب على النقد في صنيعه هذا، كما لا عيب على القاضي إذا ما أعلن كلمة الحق، والواصف إذا ما قرر حقيقة الموصوف، والصديق إذا ما صارح صديقه بالذي فيه، ولكن العيب ألا يؤدي ذلك جهده، ويعمل له وسعه؛ وإن من خطأ الرأي أن نحسب النقد عداوة للأدب، وتهجماً على كرامة الفن، وأنه طاغية مستبد لا يحفل بشيء ولا يفيد في شيء. . . فأن الطبيعة ليست بقاسية من ذهابها بالزبد ليبقي ما ينفع الناس، والطبيب ليس بمتجبر ولا بمستبد إذا ما بتر العضو الفاسد لينجو المريض. والصائغ لا يقصد الشر إذا ما تناول حجر الماس بالإحراق والصهر والصقل ليخلص جوهره وتنجلي لمعته، وكذلك قل في النقد إذا ما وضع الحق في نصابه، ودافع عن الفن في نسقه الأعلى، وعمل على تخليصه من شوائب الفضول والدعوى المزورة والمآرب المتهمة، وإن من انقلاب الأوضاع والاستهانة بالحقائق أن نحسب التهذيب عداوة، والصراحة تهجماً، والتطهير هدماً وتثبيطاً، وإذا كان بعض الأدباء لا يفيدون من النقد صقلاً وسمواً وتهذيباً وإرشاداً فليس الذنب ذنب النقد، ولكنه التفريط منهم في الانتفاع بالرشد والإصاخة إلى النصيحة، وما هم إلا كالمريض، يصف الطبيب له الدواء، ويقدر عليه الغذاء، ويقر له ما يأتي وما يدع، ولكنه يستهين بهذا كله، وما يزال حتى ينوء بعلته، ويتلف بدائه، ثم يتبجح فيلحى الطبيب!!
على أننا إذ نقول النقد، فإنما نعني ذلك الفن الجليل بقواعده المقررة، وأصوله المحررة، وغايته الشريفة، وهو شيء أسمى من التقييم والتقريظ والاستجداء، وأنبل من العبث والغرور والتفيهق، وأرفع من الشتم والحسد والحزازة وكل اعتبار شخصي، وإن من اختلاط الأمر أن نحسب كل هذه من باب النقد ونعتبرها منه، وما هي إلا اعتبارات رخيصة، وسفاسف تافهة، وشرور وآثام شأنها من النقد شأن الأعشاب الضارة في الروضة المعطار. والنقد بريء منها، بل إنه ليناهضها كما يناهض كل أذى وشر. ولقد صدق شوقي إذ يقول:(من نقد على غضب أسخط الحق، ومن نقد على حقد احترق وإن ظن أنه حرق، ومن نقد على حسد لم يخف بغيه على أحد، ومن نقد على حب حابى وجمح به التشيع، وإنما النقد فن كريم، وهو آلة إنشاء، وعدة بناء، وليس كما يزعمه الزاعمون معول هدم ولا أداة تحطيم. . .)