. . . ولعلك يا صديقي حين تذكرني بهذا العهد السعيد الفائت لا تبغي أن تقطع نفسي ونفسك حسرات وتلهب سعير الحزن وتشعل جمرة الأسى، وإنما تقصد الهتاف للخفي المغيب في أعماقي كي تثيره للحركة بعد الخمود، فأنت تقول:(لقد انصرفت عن ميدان الأدب كي تؤدي واجباً وجب، وتقف في الصف الأمين تجاهد في سبيل بلادك وحريتها، وتناضل عن حرية الأفراد المرهقين بعسف المستبدين. والآن وقد انجلى الفجر البديع عن حياة جديدة لمصر بدأت تسفر عن وجهها وترفع النقاب عن جمالها، أما يراجعك الحنين إلى الأدب تغذي عالمه بقلمك. .؟).
أما الحنين يا صديقي فأقسم ما فارقني طوال ذلك العهد، وإنما كان معذبي ومسعدي.
فإن هوى النفس - كما تعلم - غلاب لا يقهر، نفاذ إلى مقصده لا يتقهقر، وهو أقوى من الرغبات وأشد منها عناداً، وأسبقها في النفس وجوداً، وهو - بعد - مرآتها العاكسة لعنصرها، فإذا كانت أمارة بالخير، فهواها هو الرشد، يبرز مقنعاً في صورة رأي صائب، أو حركة نافعة.
وكل من في هذا الوجود مسير بالنفس - الأمارة بالخير أو بالشر. ولكل هوى صورة كائنة حية هي ظاهرة في أعمال صاحبه تبدو لأعين الرائين من الناس. كما أن لها ناحيتها الخفية التي لا تظهر ولا تنم ولا تبين. وتلك أرق الصور وألطفها. تولد في الأعماق، وتعيش وتنمو إذا راقها المهد، ولذتها الحضانة، فتطول حتى تصاحب العمر إلى نهاية الأجل. . . تلك الصورة يا صديقي هي (الحنين). . . أثر قوي من هوى النفس وصورته الخفية، يعيش في جوانب العالم الإنساني الخفي ويسبح مع الأمل في الخيال، ويرف مع الرجاء في مسابح الروح، ولكنه أبداً لطيف لا يشف ولا يكتشف ولا يحاول غدر صاحبه فيبدو غصباً.
لا يعاند صاحبه ولا يجادله أو يخاصمه ولكنه أبداً متفق معه متسق وخياله وتفكيره، يقرب له جامحات الأماني ويهون عنده بالغات المصائب، ويذلل له شامسات المصاعب.
يناجيه ويناغيه ويغذيه في أوقات تأملاته وحين البأس، ويسعده ويبث في نفسه الترسل في العزاء في لحظات الأسى واليأس.