للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الذي لم يسبق له مثيل، والذي افتتح في تاريخ الشرع الإسلامي عصراً جديداً قد أحدث ضجة واسعة، وأفضى إلى تأسيس المذهب الشافعي. ولكن كل هذا لا ينطبق على المذاهب التي سبقته: وعلى الأخص المذهبين الحنفي والمالكي؛ والأرجح أنها نزعات عامة كانت قد بدت في نواح مختلفة، وما بينها من الخلاف يرجع قبل كل شيء إلى أسباب جغرافية ومدنية عامة: إما بتنوع القوانين العرفية المندمجة في الفقه؛ وإما باتحاد العمل والعلم في نواح متماسكة؛ أما اختلاف الأساليب والطرق الفقهية فليس له إلا المقام الثاني، كذلك مذهب الحجاز لم يكن تقليدياً من حيث المبدأ بل من حيث أنه يمثل السنة المدنية؛ ومذهب العراق لم يكن أوسع حرية من ذلك بل كل ما هنالك أنه متفق وتطور حياة العراق المادية والفكرية التي تعرضت لكثير من التأثيرات الخارجية، وامتزجت بكثير من العناصر الأجنبية. كان هذان المذهبان في مرحلتهما القديمة يحتاجان إلى تنظيم محكم، فهما لم يرتبا صفوف أتباعهما إلا بتأثير المذهب الشافعي وعلى غراره، فاختار كل واحد منهما شخصاً ممتازاً ينتسب إليه، جديراً بتمثيله، والأدلة كثيرة على هذه الطريقة من النظر في نشأة المذاهب الفقهية: فلقد ظلت التسميتان الأصليتان من (أهل العراق) و (أهل الحجاز) تطلقان على أصحاب هذين المذهبين حتى بعد عصر مؤسسيهما المزعومين أبي حنيفة ومالك، في حين أن أصحاب الشافعي كانوا ينعتون بهذا الاسم منذ أول الأمر؛ وأنه لا يزال موضع شك في عدد كبير من الفقهاء أن يعتبروا أعضاء للمذهب المالكي، وخصوصاً للمذهب الحنفي أو يعتبروا فقهاء مستقلين، على حين أن مسئلة كهذه لا تلحق الشافعية. أما مالك فأن الشهرة الشخصية العظيمة التي ظل يستمتع بها طوال حياته لابد أن تكون قد ساعدت على اختياره رئيساً ناسبا لمذهب الحجاز؛ بيد أن هذه الشهرة قد عزتها إليه المصادر المتناهية في القدم لنقده الدقيق للأحاديث ولرجالها لا لاجتهاده التشريعي البحت. وكون الشافعي قد ميزه بين أهل المدينة بأن ألف كتابا صغيراً فيما خالف فيه مالكا من المسائل ليس بعجيب لأن الشافعي أخذ العلم منه. ونفس النجاح العظيم الذي لقيه الكتاب الموّطأ لمالك وحده بين عدد من الكتب المماثلة له يمكن أن يعلل أبسط تعليل إذا لم نعده كتاباً مبتكراً ذا آراء شخصية بل عددناه كتابا يعبر عن إجماع المدنيين في عصر المؤلف ملتزماً الطريقة الوسطى مجتنباً التطرف في المسائل المختلف فيها. ولدينا ما يحملنا على الاعتقاد بأن مالكا

<<  <  ج:
ص:  >  >>