للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صاح حاجب المنصور: أيها الرجل!

فالتفت الرجل التفاته كأنها أفاقة المغشي عليه، ثم برق عينيه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين

قال المنصور: وعليك السلام يا أسير الشجون! هل تتذكر اسمك؟!

قال الرجل: سعيد. . . سعيد. . . يا أمير المؤمنين!

قال المنصور: أسعيد أنت؟

قال الرجل: ذاك اسمي لا وصفي، والأسماء من اختيار الآباء، والأوصاف من اختيار الأقدار!

قال المنصور: وكيف كنت مع الأقدار؟

فتأوه سعيد، وقال:

- جعلت حياتي تتلون تلون الزمن: من سواد الليل إلى بياض الصبح، ومن حمرة الهجير إلى صفرة الأصيل. . . فلقد كان مشرق شبابي مغرب والدي، وكان ميراثي منه وفراً من الوصايا ونزراً من الدراهم، فما مددت يدي إليها حتى بعثت فيهما نشطة العمل، كأنها رقية التكسب، فتاجرت وأخلصت للتجارة حتى برت بي ودرت، لله درها! فقد صرت أعد أوقاتي بالدنانير حتى خيل إلي أن أشعة الشمس تجمد في يدي ذهباً!

فحدقه المنصور بعينين تطل منهما نفسه المحبة للمال، وقد كان المنصور يجمع في صفاته قوة الحزم ورجاحة الرأي وحب المال وطهارة اليد. فسطع في عينيه من معنى الذهب بربقه، ثم غلب عليهما من معنى الحزم حديده؛ ثم قال: أليس في هذا سعدك يا سعيد؟ فكيف احتضرك الهم؟

قال سعيد:

- لقد كنت أمس قرير العين بهيج القلب، إذ رجعت من سفرة راشدة - في تجارة رابحة - فدفعت إلى امرأتي ما أحضرت من كرائم الأموال، وطفقت اشغل يدي بتصفيفها ولساني بتحسينها، حتى أخذتني نشوة الظفر بما كسبت فأهديت، وأسرعت المرأة القبول. . . آه! يا لها من عجول!! تركتها ضائق النفس، وخرجت إلى الناس أؤدي حقوقاً لزمتني بالإياب، ثم رجعت إلى منزلي مع الليل، فأسر إلي حلماً منعما، تشيع فيه أضواء الذهب، وتنوس عليه

<<  <  ج:
ص:  >  >>