نظام البطاقات محكم دقيق يضمن لكل بطاقة رصيدها، ولكل مستهلك نصيبه؛ فمن أين جاء الحرمان والخير موجود، وكيف سيطرت الفوضى والنظام قائم؟ كان الأمين الذي جعلته الحكومة على خزائن التموين قد قضى أن يكون مع بطاقة التوزيع تصريح منه لا يظفر به إلا ذو المال أو الجمال أو القربى؛ وصديقنا الأستاذ لم يؤته الحظ شفاعة من هذه الشفاعات المجابة، فبقى من جمهرة الفقراء يحتشدون كل يوم على باب الأمين يسألون فيه غير مجيب، ويسترحمون منه غير راحم. قال الأستاذ وقد نبض من الغيظ نابضه، فارتجفت شفتاه وتهدج صوته:
كان مئات من ذوي الضعف والمسكنة يتركون بيوتهم صفراً من القوت والوقود ويظلون النهار كله على باب هذا (الحاكم) قياماً وقعوداً وبأيديهم القفف والأكياس، وفي جيوبهم البطاقات والنقود، يسألونه التصريح مرة بالدعاء ومرة بالبكاء، فلا يجيبهم غير الجنود بعصيهم الملهبة، وكلماتهم الغليظة؛ حتى إذا أمسى المساء انصرف المجدودون بتصاريحهم إلى تاجر بعينه يكتالون بالسعر المقرر، وانقلب المكدودون بأوعيتهم إلى التاجر نفسه يكتالون بالسعر المكرر. ومن عرق البائسين ودموع اليتامى تنتفخ جيوب وتكتظ كروش؛ وبأمثال هذا الموظف وذلك التاجر تدول دول وتسقط عروش!
قلت: وما يدريك يا نجيب، لعل الحال في بلدك هي الحال في كل بلد! لقد فجر التاجر وهودتهم الطامع، فاحتكروا السلع، واختزنوا الأرزاق، وعموا عن طريق الحق، وصمتوا عن نداء الضمير، ولم تزعْهم خشية الله ولا سطوة الحكومة؛ لأن الله يمهل، ولأن الإنسان يهمل. والقانون من غير تنفيذ ورق مطبوع، والتنفيذ من غير خلق ظلم مسلح.
إن في مخازن الأغنياء ومخابئ التجار من الأقوات ما لو عرض للبيع المشروع لأعاد إلى الناس عيشهم الأول؛ ولكن الفقدان والحرمان سيدومان ما دام للطامع يد وليس له قلب، وللحكومة لسان وليس لها عين.
إن الحكومة قد أيقظت وعيها ورأيها لشؤون الوقاية والتموين؛ وفي سبيلها تستطيع أن تبتكر الأسلوب البارع وتسن النظام المحكم، ولكنها لا تستطيع أن تبعث النور في الحس المظلم، ولا الشعور في الفؤاد المصمت.
هذه إنجلترا تمون الجنود من نهر النيل إلى بحر قزوين، ومن أقصى المحيط الغربي إلى