للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أهلاً، فإن أحسنتَ إليه فلا تحسبه عليَّ يداً، وإن لم تحسن إليه لم أعده عليك ذنباً والسلام. فركب أبو العيناء إلى الجاحظ، وقال له: قرأت كتابك يا أبا عثمان، فخجل الجاحظ وقال: يا أبا العيناء هذه علامتي فيمن أعتني به، قال: فإذا بلغك أن صاحبي قد شتمك فاعلم أنها علامته فيمن شكر معروفه.

وصلت العداوة إذن بين الكاتبين القديرين الجاحظ وأبي العيناء، وكان هذا أثراً لتشيع الحاشية وانقسامها على نفسها كما سبق؛ وها نحن أولاء نرى أبا العيناء يغشى مجلس القاضي ابن دؤاد في تلك المدة، ويتودد إليه، ويروي عنه أحاديث كثيرة آثرنا أن نثبت منها شيئاً؛ قال أبو العيناء للقاضي: إن قوماً من أهل البصرة قدموا إلى (سُرّ مَنْ رأى) يداً على، قال: يد الله فوق أيديهم، فقلت: إن لهم مكراً، فقال: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فقلت: إنهم كثير، فقال: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، فقلت: لله در القاضي، فهو كما قالت الصموت الكلابية:

لله درك أي جُنة خائف ... ومتاع دنيا أنت للحدثان

متخمط يطأ الرجال شهامة ... وطء الفنيق مدارج القِرْدان

ويكبهم حتى تظل رءوسهم ... مشجوجة تنحطّ للغربان

ويفرّج الباب الشديد تاجُه ... حتى يصير كأنه بابان

وقال أبو العيناء: كنا عند القاضي ابن أبي دؤاد في جماعة من أهل العلم والأدب، فوفد عليه رسول الحاجب أبي منصور يقرئه السلام ويبلغه ألا يقصد القاضي إلى الحاجب، لأن ذلك يضر بسمعته عند الوزير ابن الزيات، فقال القاضي: أجيبوه عن رسالته، فلم ندر ما نقول، ونظر بعضنا إلى بعض، فقال: أما عندكم جواب؟ قلنا: القاضي أعزه الله أعلم بجوابه منا، فقال للرسول: اقرأ عليه السلام، وقل له ما أتيتك متكثراً بك من قلة، ولا متعززاً بك من ذلهٍ، ولا طالباً منك رتبة، ولا شاكياً إليك كربة؛ ولكنك رجل ساعدك زمان، وحركك سلطان، ولا علم يؤلف، ولا أصل يعرف، فإن جئتك فبسلطانك، وإن تركتك فلنفسك. فعجباً من جوابه.

على أنه لا يغرنا مجالسه أبي العيناء للقاضي، فإنه قد وقعت بين الرجلين خصومة، فكان لا يرحمه فيها أبو العيناء، مما يدلنا على أنه كان من الرجال النفعيين الذين يؤثرون المنفعة

<<  <  ج:
ص:  >  >>