الشخصية على تلك الصداقة التي لا تفيده شيئاً من المال الذي يحبه ويفضله على كل عزيز وحميم. ولكن ينبغي إلا نفهم من هذا أن أبا العيناء انضم إلى حزب ابن الزيات. كلا. بل أبغض الرجلين جميعاً، وذمهما معاً، وهذا حديث طريف أتى به صاحب زهر الآداب وقد آثرت أن آتي بجزء صالح منه حتى يكون معيناً لنا على الوقوف على مقدار بلاغة الرجل وأسلوبه في الكتابة.
قال أبو العيناء: لما حبس الواثق إبراهيم بن رباح، وكان له صديقاً، صنعت له هذا الخبر راجياً أن ينتهي إلى أمير المؤمنين فينتفع به؛ ولقد سمعه الواثق فضحك واستظرفه، وقال ما صنع هذا كله إلا أبو العيناء بسبب إبراهيم بن رباح، وأمر بتخليته. والخبر هو: قال لقيت أعرابياً من بني كلاب، فقلت له ما عندك من خبر هذا العسكر؟ قال قتل أرضا عالمها؛ قلت فما عندك من خبر الخليفة؟ قال بخبخ في عزه، وضرب بجرانه، وأخذ الدرهم من مصره، وأرعف قلم كل كاتب بجنايته؛ قلت فما عندك في أحمد بن أبي دؤاد؟ قال: عضلة من العضل لا تطاق، وجندلة لا ترام، ينتحي بالمدى لتنحره فيجوز؛ وتنصب له الحبائل، حتى تقول الآن، ثم يطفر طفرة الذئب، ويخرج خروج الضب؛ والخليفة يحنو عليه، والقرآن آخذ بضبعيه. قلت فما عندك من خبر ابن الزيات؟ قال ذلك وسع الورى شره، وبطن بالأمور خيره، فله في كل يوم صريع، لا يظهر فيه أثر ناب ولا مخلب، إلا بتسديد الرأي. قلت فما عندك من خبر إبراهيم بن رباح؟ قال ذاك رجل أوبقه كرمه، وإن بقره للكرام قدح، فلا عزّ بهجائه؛ ومعه دعاء لا يخذله، ورب لا يسلمه، وخليفة لا يظلمه. ثم يأخذ في الحديث عن شأن أناس كثيرين من رجال الدولة مثل الخصيب والحسن بن وهب وأخيه سليمان، وهذا لا يعنينا في شيء لأننا لا ندرس أولئك الرجال الآن، ثم يقول قلت له: أين نزلت فأؤمك؟ قال مالي منزل تؤمه، أنا أستتر في الليل إذا عسعس، وأنتشر في الصبح إذا تنفس.
ويلوح لي أن تلك الأحاديث هي التي فتحت باب المقامات، وأوجدت الفكرة الرئيسية فيها، حتى نسج على منوالها بديع الزمان الهمداني والحريري فيما بعد.
قد عادى أبو العيناء ابن أبي دؤاد، ولكنه لم يمض في الخصومة إلى حد كبير، بل حفظ له جميل كرمه وقضاء حوائجه التي كثيراً ما كان يضايقه بها إبقاء على وده وصداقته ما