للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

دامت تجر عليه المنفعة حينا. قال له المتوكل يوماً: من أسخى من رأيت؟ قال ابن أبي دؤاد، فقال المتوكل تأتي إلى رجل رفضته فتنسبه إلى السخاء. قال إن الصدق يا أمير المؤمنين ليس في موضع من المواضع أنفق منه في مجلسك، وإن الناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى الجود، لأن سخاء البرامكة منسوب إلى الرشيد، وسخاء الفضل والحسن ابني سهل منسوب إلى المأمون؛ فإذا نسب الناس الفتح وعبيد الله ابني يحيى بن خاقان إلى السخاء، فذلك سخاؤك يا أمير المؤمنين. قال صدقت.

فمن هذا نعلم مبلغ تلك الخصومة وأنها كانت طفيفة، ويظهر أن سببها كان عدم إجابة طلب لأبي العيناء أو قبوله شفاعته، أو نحو ذلك من الأشياء التي كان يتطاول بها أبو العيناء على الرؤساء.

دامت المنافسة على الرياسة بين ابن الزيات وابن أبي دؤاد مدة خلافة المعتصم والواثق حتى تولى المتوكل، وفي السنة الثانية من خلافته نكب ابن الزيات وأحرقه في التنور، وخلا الجو بهذا لحزب ابن أبي دؤاد، ووجد أبو العيناء الميدان أمامه فسيحاً، فاتصل بالمتوكل وحصلت له معه مجالس أدخل الرواة بعضها في بعض؛ ويظهر أن أعداءه قد وشوا به إلى الخليفة كي يوقعوه فيما وقع فيه ابن الزيات، ولكنه بفصاحته وذلاقة لسانه نجا. قال له المتوكل: بلغني أنك رافضي، فقال يا أمير المؤمنين وكيف أكون رافضياً وبلدي البصرة، ومنشئي في مسجد جامعها، وأستاذي الأصمعي، وليس يخلو القوم أن يكونوا أرادوا الدين أو الدنيا، فإن كانوا أرادوا الدين فقد أجمع الناس على تقديم من أخروا، وتأخير من قدموا وإن كانوا أرادوا الدنيا، فأنت وآباؤك أمراء المؤمنين، لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك. وكانت تلك الوشاية كفيلة بأن تقضي عليه، لأن المتوكل كان يكره الرافضة الذين يدينون بحب علىّ بن أبي طالب (ض) ولكنه تخلص بذكائه.

ودخل أبو العيناء المتوكل في قصره المعروف بالجعفري فقال له الخليفة ما تقول في دارنا هذه؟ فقال يا أمير المؤمنين إن الناس بنوا الدور في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك. فاستحسن كلامه وقال: كيف شرابك للخمر؟ قال أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره؛ فقال له الخليفة دع عنك هذا ونادمنا، فقال لا أطيق ذلك، وما أقول هذا جهلاً بمالي في هذا المجلس من الشرف، ولكني رجل مكفوف البصر، وكل من في مجلسك يخدمك، وأنا

<<  <  ج:
ص:  >  >>