للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

محتاج أن أخدم، ولست آمن من أن تنظر إلي بعين راض، وقلبك علي غضبان، أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم أميز بين هذين هلكت، فأختار العافية على التعرض للبلاء. قال صدقت، ولكن تلزمنا، قال لزوم الفرض الواجب اللازم. فوصلني بعشرة آلاف درهم.

تلك كانت منزلة أبي العيناء عند المتوكل يتمنى أن ينادمه، ويود ولو بجدع الأنف أن يتاح له حضور شخص فكه المحاضرة، عذب الحديث كأبي العيناء في مجلس شرابه، وقد كان المتوكل يمزح معه كثيراً قال له مرة: هل رأيت طالبياً حسن الوجه قط. قال يا أمير المؤمنين أرأيت أحداً قط سأل ضريراً عن هذا! قال لم تكن ضريراَ فيما تقدم، وإنما سألتك عما سلف؛ قال نعم رأيت منهم ببغداد منذ ثلاثين سنة فتى ما رأيت أجمل منه. قال المتوكل: تجده كان مؤاجَرا، وتجدك كنت قوادا عليه، فقال أبو العيناء: أو فرغت لهذا يا أمير المؤمنين، أتراني موالي على كثرتهم، وأقود على الغرباء، قال اسكت يا مأبون! قال مولى القوم منهم، قال المتوكل أردت أن أشتفي منهم، فاشتفى لهم مني.

على أن عدم قبول أبي العيناء لمنادمة المتوكل قد عصمه إلى حد ما من القصف والمجون اللذين كان يجري في قصر الخلافة، وإن كنت أعتقد أن شخصاً متوقد الذكاء كأبي العيناء قد حمى نفسه من معاقرة الخمور، خوفاً من أن تضيع عقله، وتغلب على لبه، فيخرج عن صوابه، وهو ما كان يأباه على نفسه، فجوابه إذاً للمتوكل حين سأله عن الشراب بقوله: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره لم يكن للتخلص من منادمته، وإنما كان صادقاً في هذا القول، وإن كان قد ذهب إلى الإستمتاع بملذات الحياة من غير طريق الشراب، كلما حان له ذلك، ولكن ذهابي إلى هذا الرأي ليس معناه تنزيه أبي العيناء وجعله في عصمة الأنبياء والصديقين بل ربما يكون قد شرب ونادم وأفرط في الشراب وأخذ بحظه من اللهو والمجون مع غير المتوكل، لكنني لا أميل إلى اتهامه بأنه كان من المعاقرين للشراب والمدمنين على قرع الكؤوس، كالمتوكل أو وزيره الفتح بن خاقان مثلاً، كلا. وإنما كان لا يميل إلى تعاطي الكثير من الخمور لأنها تجره إلى الإفتضاح كما يقول.

(يتبع)

الزقازيقمحمود محمود خليل

<<  <  ج:
ص:  >  >>