وكان صاحب فلسفة فأخضع علم البيان لذهنيته الفلسفية، وقد نظر فيما كتب السلف من بحوث فنظمها في قواعد جافة كمواد القانون، ومنذ ذلك الحين ودراسة البلاغة لا تعدو هذه الدائرة التي صب فيها السكاكي مباحث البيان والمعاني والبديع، وكذلك التأليف لم يعد أن يكون اختصاراً أو شرحاً أو تحشية على المفتاح أو ما تفرع منه. ونستطيع أن نستثني بعض كتب قليلة ككتاب الطراز فإن صاحبه لم يطلع على شيء مما كتبه السكاكي فيما يحدثنا عن نفسه.
نستطيع أن نتبين بعد هذا من غير كبير عناء أن صاحب علمي المعاني والبيان هو عبد القاهر وأن صاحب البديع هو عبد الله بن المعتز، وقد يعيننا على ذلك أمران:
(١) ما كتبه العلوي في مقدمة كتابه الطراز (وأول من أسس من هذا الفن وقواعده وأوضح براهينه، وأظهر فوائده، ورتب أفانينه الشيخ العالم التحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجاني)
(٢) ما كتبه السكاكي في فصل أخير من كتابه بعد أن تحدث عن عمله في علمي المعاني والبيان قال (هذا ما أمكن تقريره من كلام السلف رحمهم الله في هذين الأصلين، ومن ترتيب الأنواع فيهما، وتذييلهما بما كان يليق بها، وتطبيق البعض منها بالبعض، وتوفية كل ذلك حقه على موجب مقتضى الصناعة) ثم قال (وعلماء هذا الفن - وقليل ما هم - كانوا في اختراعه، واستخراج أصوله، وتمهيد قواعدها، وإحكام أبوابها وفصولها، والنظر في تفاريعها، واستقراء الأمثلة اللائقة بها، وتلقطها من حيث يجب تلقطها، فعلوا ما وفت به القدرة البشرية إذ ذاك) وإذا أردنا أن نعرف من هم السلف الذين قصدهم السكاكي هدانا البحث في كتابه إلى أن عبد القاهر هو المقدم فيهم، وعليه اتكأ السكاكي فهو يصرح في موضع من فضل كتابه بفضل عبد القاهر فيقول عند اختلافهم على أن الاستعارة مجاز عقلي أو لغوي (ومدار ترديد الإمام عبد القاهر قدس الله روحه لهذا النوع بين اللغوي تارة وبين العقلي أخرى على هذين الوجهين جزاه الله أفضل الجزاء فهو الذي لا يزال ينور القلوب في مستودعات لطائف نظره لا يألو تعليماً وإرشاداً) وهو يترسم خطاه في مواضع كثيرة حتى لينقل سطوراً من كتبه بنصها، وأن تأثره بها لبعيد المدى وسنفرد هذا ببحث خاص إن شاء الله.